في ذكراها.. الدرس المستفاد من رحلة الإسراء والمعراج
بدأت ذكرى الإسراء والمعراج ليلة ٢٧ رجب من مغرب الأحد وانتهت فجر يوم الاثنين، وبهذه المناسبة يوضح الشيخ محمد النمر، واعظ أول وعضو لجنة الفتوى بمنطقة وعظ القاهرة، الدرس المستفاد من هذه الرحلة العظيمة التي خص الله سبحانه وتعالى بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
(إن مع العسر يسرا وبعد الضيق فرجا)
لقد عانى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المشركين أشد وأكبر المعاناة، ولقي منهم ما لقي، سبوه، وشتموه، وقالوا عنه ما قالوا، ووضعوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد يصلى، بل حاولوا قتله.. ثم حاصروه في الشعب (شعب أبي طالب هو وأصحابه) ثلاث سنين حتى أكلوا ورق الشجر وجلود الميتة.
وفي السنة العاشرة ماتت زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها التي صدقته حين كذبه الناس، وآمنت به حين كفر الناس، وواسته بمالها حين حرمه الناس، ورزقه الله منها الولد وحرمه من غيرها، وكانت خير سند في الداخل، ليلاقي ما يلاقي من المشركين ثم يذهب إليها فتمسح عنه الحزن وتزيل عنه الأذى، وتواسيه وتؤازره فكأن شيئا لم يكن.. ماتت فكان لموتها الأثر البالغ عليه.
ثم ما هي إلا أيام حتى مات عمه أبو طالب سنده في الخارج، فقد كانت قريش تهابه وتوقره وتحترمه، فما كان أحد يدخل على النبي بأذى إلا النادر، فلما مات عمه تجرأ عليه السفهاء وزاد عليه البلاء حتى تجرأ عليه أحدهم فنثر على رأسه التراب، فسمعت ابنته فاطمة بذلك فجاءت تمسح عنه الأذى، وتغسل رأسه وتبكي، فيقول لها: [يابنية!! لا تحزني إن الله مانع أباك].
ولما رأى أنهم قد صمت آذانهم عن سماع الحق، وعميت عيونهم عن رؤيته، وطمس على قلوبهم فلم يقبلو الحق، خرج يبحث عن مكان يجد فيه من يؤويه حتى يبلغ رسالة ربه فذهب إلى ثقيف في الطائف لعله يجد عندهم ما لم يجد في مكة، ولعل فيهم من يؤويه حتى يبلغ رسالات الله..
لكنه للأسف الشديد وجد قلوبا أشد قسوة، وعقولا أعظم تحجرا، ونفوسا أعماها الشرك والكبر، فكان إعراضهم أشد من إعراض الأولين، وردهم أسوأ وقولهم أقبح وأشنع.. ولم يكتفوا بذلك بل سلطو عليه الحمقى السفهاء، فخرجوا وراءه يضربونه بالحجارة ويستهزئون به فما زالوا يرجمونه بها حتى أدموا رأسه وأعقابه حتى ألجؤوه إلى حديقة لعتبة وشيبة ابني ربيعة.. فدخلها مبتعدا عنهم وجلس يستريح.
بداية المواساة
ورآه شيبة وأخوه فرقوا لحاله فأرسلوا مع خادمهم وغلامهم عداس بقطف من عنب إليه ـ لا حبا ولكن هي مروءة العرب.. أتاه عداس بالقطف فقربه إليه.. فمد يده وقال بسم الله… فتعجب الغلام وقال إن هذا كلام لا يقوله أهل هذا المكان، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت؟ قال نينوى قال: بلد العبد الصالح يونس بن متى؟ فقال: وما أدراك أنت بيونس بن متى؟ قال: هو أخي كان نبيا وأنا نبي.. فلما سمع عداس منه ذلك إنكب عليه يقبل يديه ورجليه وآمن به.. فكانت بشرى للنبي وتطييبا لخاطره.. فلما رآه سيداه قال أحدهما للآخر لقد أفسد علينا الغلام.. فلما رجع إليهما قالا: لا يفسد عليك دينك؛ فإن دينك أفضل من دينه.. فقال: ياسيدي إنه ليس على وجه الأرض أفضل من هذا الرجل.
خرج النبي من عندهما راجعا مهموما حزينا يهيم على وجهه لا يلوي على شيء، وقد ضاقت به الأرض، وأحس أنه لا يملك من أمر نفسه ورسالته شيئا، فلما كان بقرن الثعالب دعا بالدعاء المشهور:
[اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
بهذا الدعاء توجه صلى الله عليه وسلم إلى ربه عند خروجه من الطائف التي ذهب إليها بعد أن سدت مكة آذانها وتغشت ثيابها وأغلقت أعينها وقلوبها عن سماع الحق ورؤية الحق وقبول الحق.
بل زاد طغيانها وتمردها وجعلت تحارب الدين الجديد وتنتقم من الإسلام في شخوص أتباعه فأذاقوا المسلمين الجدد الويلات فما يسمعون بأحد يدخل الدين إلا وذهبوا إليه فعذبوه أشد التعذيب ونكلوا به بكل صنوف النكال..
فما كاد ينتهي من دعائه حتى أرسل الله إليه ملك الجبال فَسَلَّمَ عَلَيه، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا).(رواه مسلم).
فكان هذا أول النصر، وأن السماء معه فإن كان أهل الأرض قد ابتعدوا عنه ورفضوا إيواءه ونصره فإن من في السماء لن يتخلى عنه، ولن يسلمه..
ثم تأتي بعد ذلك رحلة الإسراء والمعراج مواساة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إذا تخلى عنك أهل الأرض فإن الله معك وناصرك ومؤيدك. فأسري بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماوات العلى، ليُظهر له من آيات ربه الكبرى، ويُعزز إيمانه ويسكن قلبه، ويثبت قدمه في مواجهة التحديات المقبلة.
في رحلة الإسراء والمعراج، تم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقام عالي، حيث شهد من معجزات الله ما لم يشهد غيره، ورافق ذلك تقوية معنوياته في مواجهة ما لقيه من أذى وتحديات. فكانت هذه الرحلة بمثابة تذكير له بأن الله لا يتخلى عن عباده المؤمنين مهما كانت الظروف، وأنه دائماً معهم بتوفيقه ورعايته.
ومن هذه الرحلة أيضا تتجلى أهمية الصلاة التي فرضت في السماوات العلى، فهي الرابط الذي يربط المؤمن بربه، وهي المصدر الذي يمنح المسلم القوة والصبر لمواجهة الصعاب.