ناصر تركي يكتب: دروس العمر في زوال الدنيا

كم نمضي في هذه الحياة الدنيا ونحن نتشبث بها بكل قوتنا، غافلين أو متغافلين عن حقيقتها الزائلة؟ نركض خلف متعها وشهواتها، نتنافس على فتاتها الفانية، ونعتقد واهمين أننا سنخلد فيها أو أننا سنستمتع بها إلى الأبد. لكن مع مرور الأيام وتقلب الفصول العمرية، تبدأ الحقائق بالظهور شيئاً فشيئاً، لتكشف لنا عن طبيعة هذه الدار العابرة.

في بداية العمر، تشتعل فينا الرغبات وتتوق نفوسنا إلى كل ما تراه العين وتشتهيه النفس. نسعى جاهدين لتحقيق الملذات وجمع المتاع، وننخرط في سباق محموم نحو تحقيق الذات من منظور دنيوي بحت. يندفع البعض منا بشراسة نحو السلطة والنفوذ، متوهمين أن فيهما الخلود أو الضمان. يتملقون الرؤساء والمسؤولين، ويوافقون على أمور قد تخالف ضمائرهم وقيمهم، كل ذلك خوفاً من بطشهم أو طمعاً في منصب أو مكانة زائلة.

لكن مع تقدمنا في السن، تبدأ قوانا في الخفوت، وتبدأ شهواتنا في الذبول. ما كان بالأمس هدفاً نسعى إليه بكل جوارحنا، يصبح اليوم عبئاً لا نقوى عليه أو رغبة فاترة لا تحرك فينا ساكناً. تفقد الدنيا بريقها تدريجياً، وتنكشف لنا هشاشة المتع التي كنا نتصارع عليها. أين هم الآن أولئك الذين سعوا للسلطة بكل وسيلة؟ وأين ذهبت مناصبهم ومكانتهم التي بذلوا الغالي والنفيس من أجلها؟ غالباً ما يجدون أنفسهم في نهاية المطاف وقد خسروا شيئاً أثمن: مبادئهم وراحة ضمائرهم.

نتذكر أيام الشباب وقوتها، ونقارنها بضعف الشيخوخة وعجزها. نرى كيف تتلاشى القدرة على التنافس على زخارف الدنيا، وكيف تصبح الكثير من الملذات التي كانت مغرية في السابق غير ممكنة أو غير مرغوبة. يصبح الجسد أضعف، والحواس أقل حدة، والطموحات الدنيوية أقل إلحاحاً. حتى أولئك الذين جاملوا وتملقوا خوفاً أو طمعاً، يدركون في لحظات الصفاء أن تلك المجاملات والموافقات لم تجلب لهم السعادة الحقيقية أو الأمان الدائم. بل قد تركت في نفوسهم ندوباً من الذل والندم.

في هذه المرحلة من العمر، يبدأ الإنسان في إدراك حقيقة كانت غائبة أو مغيبة عنه في زحمة الحياة: أن هذه الدنيا ليست دار قرار، وأن كل ما فيها زائل وفانٍ. وأن العمر مهما طال فهو قصير، وأن النهاية قادمة لا محالة.

هنا، تبرز أهمية الاستعداد للرحيل، والتفكر في الدار الآخرة الباقية. تبدأ الروح في التوق إلى ما هو أسمى وأبقى، وإلى عمل صالح يبقى أثره بعد الرحيل. يصبح التركيز على بناء رصيد من الحسنات، والسعي لنيل رضا الخالق، هو الغاية الحقيقية التي تستحق الجهد والعناء. يدرك المرء المتأمل أن الخوف الحقيقي يجب أن يكون من الله وحده، وأن المنصب الحقيقي هو عند الله، وأن المكانة الدائمة هي في جنته. وأن التملق والمجاملات الزائفة لن تغني عنه شيئاً في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

إن رحلة العمر تعلمنا دروساً قيمة عن حقيقة الدنيا وزوالها. تعلمنا أن التمسك بها إلى حد الغفلة عن الآخرة هو وهم وخسران. تعلمنا أن القوة والشباب والشهوات ليست دائمة، وأن العاقل هو من يستثمرها في طاعة الله وعمل الخير قبل أن تفنى. كما تعلمنا أن السعي للسلطة والتملق خوفاً أو طمعاً هو طريق زائل، وأن العزة الحقيقية في طاعة الله والتمسك بالحق.

وفي الختام.. نستحضر عظمة الحق ودوام السلطان لله وحده، فنتذكر قوله تعالى:

 * {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]

فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، وإليه المصير والمرجع:

 * {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88-89]

* {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]

   .

 * {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ هَاجَ فَأَصْبَحَ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۚ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]

 * {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]

 * {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعٌ قَلِيلٌ ۖ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]

 * {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [الأعلى

: 16-17] * {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]

 

فلنجعل هذه الحقائق نصب أعيننا، ونسعى في هذه الدنيا الفانية لما يبقى وينفع في دار البقاء، مستشعرين عظمة الله وسلطانه، وعارفين أن إليه وحده الرجوع.

After Content Post
You might also like