ناصر تركي يكتب: الصيف.. بين عبق الماضي ومرارة الحاضر

لطالما كان الصيف، بالنسبة للكثيرين، مرادفًا للبهجة، للعطلات العائلية، ولذكريات لا تُمحى. ولكن، بالنظر إلى صيف الأمس وصيف اليوم، يتجلى لنا بوضوح حجم التغيير الذي طرأ على مجتمعنا، وكيف تبدلت المفاهيم والقيم التي كانت تشكل جوهر هذه الفترة من العام.
الإسكندرية زمان: نقاء الشواطئ وجمال العائلة
في ستينيات القرن الماضي، كانت الإسكندرية، عروس البحر المتوسط، وجهة لا تضاهى. أتذكر جيدًا أيام العجمي، تلك الجوهرة التي كانت تتلألأ على سواحل الإسكندرية، بشواطئها الهادئة ورمالها الذهبية، قبل أن يطالها التدمير في ثمانينيات القرن الماضي. كانت شواطئ مثل شهر العسل ودرويش ملاذًا حقيقيًا للعائلات، حيث يمكن للجميع الاستمتاع بصفاء البحر ودفء الشمس في جو من الخصوصية والاحترام. أما المعمورة، فكانت مقصدًا لهواة السهر والزحام، لتؤكد أن المجتمع السكندري آنذاك كان ينقسم بين عشق الهدوء في الغرب (العجمي) وحب الصخب في الشرق (المعمورة).
كان البحث عن الهدوء يدفعنا أحيانًا للهروب إلى الشواطئ الأبعد، مثل سيدي كرير أو سيدي عبد الرحمن في زمنهما الأصلي، حيث كانت السواحل تمتد حتى مطروح كأراضٍ فضاء، خالية من أي تجمعات سكنية أو ضجيج. كانت المتعة الحقيقية تكمن في بساطة الحياة العائلية، وفي التقاط الصور الفوتوغرافية بكاميرات ذلك الزمن الجميل، بعيدًا عن أي بهرجة أو تباهٍ. كان مجتمعنا متقاربًا، حتى البسطاء كانوا يستمتعون بجمال الإسكندرية وشواطئها مثل الشاطبي، الدخيلة، المكس، وأبو قير.
لقد كان زمنًا صنع أجيالاً تتمتع بجذور راسخة، بتربية قويمة، وبتقاليد الاحترام. الإسكندرية في شهور الصيف كانت تتمتع بمكانة خاصة، بمسارحها وسينماتها ورواجها السياحي المميز، ولكن بشكل حضاري ومحترم.
صيف اليوم: تنافس شكلي وانهيار قيم.
كل عام، أتوقف لأراقب ما يحدث في الصيف من مهازل باتت تتكرر. أرى تنافسًا محمومًا بين أثرياء العصر الحديث، يتجلى في ملابس السيدات التي لا تتناسب مع أعمارهن أو حتى أجسادهن، وفي مظهر الشباب والأطفال الذين يصعب التعرف على هويتهم وجنسهم من خلال ملابسهم. صور التلامس والقبلات في الأماكن العامة باتت مشهدًا مألوفًا، دون أدنى مراعاة للحرمانية أو للقيم المجتمعية. الكل خليط، وكأننا فقدنا بوصلتنا الأخلاقية.
أتذكر أيام الشباب، وكيف كنا نرتدي الملابس العسكرية بفخر، ونشعر بالسعادة الغامرة لأنها كانت تعبر عن النخوة والرجولة والقيم والأخلاق. ولكن للأسف، لقد ضاعت المبادئ وانهارت الأخلاق. أصبح المجتمع يتنافس في شكل الفيلا والسيارة، وتتنافس السيدات في المباهي بالحقائب والأحذية والملابس والمايوهات. الكل غارق في هذا التنافس الشكلي، وكأننا نسينا أننا نعيش في مجتمع له تقاليد ومبادئ وقيم. هذا السلوك سيخلق أجيالاً قادمة لن تستطيع تكوين أسرة مستقرة، والدليل على ذلك هو حالات الطلاق التي فاقت كل الحدود.
قلبي يعتصر ألمًا وحزنًا على مجتمعنا الذي يمر بمرحلة خطيرة، تحت شعار “الحريات الشخصية”. فالحرية الحقيقية هي تلك التي تبنى على الاحترام، وعلى الالتزام بالقيم، وعلى الحفاظ على النسيج الاجتماعي. إذا لم نستدرك ما يحدث، فإن الثمن سيكون باهظًا على الأجيال القادمة.