صناعة “السعفيّات” تعين الليبيين على مواجهة أعباء اقتصادية
تستيقظ حليمة محمد مبكرا صباح كل يوم، محتضنة أوراق أشجار النخيل وكأنها تعتني بطفل حديث الولادة، لا تشعر بالضجر على الإطلاق، بل تستمتع بوقتها الممزوج برائحة النخيل.
تتخذ حليمة إحدى القاعات الدراسية داخل مدرسة مهجورة في مدينة تاورغاء الواقعة على بعد 240 كيلومتراً شرق طرابلس، ورشة لأعمالها من “السعفيات”، وهي حرفة تتمثل في صناعة السلال والأطباق والحصائر والقفف والحقائب من أوراق النخيل المجفف، تُنسَج وتُزَيَّن بألوان عدة، لتتشكل لوحة فنية بامتياز.
هذه الحرفة التقليدية التي تتميز بها ليبيا، وخصوصاً تاورغاء، منذ مئات السنين، نظرا إلى شهرتها بزراعة النخيل، تُعين السكان على قضاء احتياجاتهم اليومية لمواجهة الأعباء الاقتصادية، في بلد غني مزقته الفوضى والانقسامات منذ أعوام.
تقول حليمة محمد (55 عاماً) لوكالة فرانس برس مرتدية ثوباً ملوناً تقليدياً وهي تخيط وتشكل سلة من أوراق النخيل “والدي وشقيقاتي يمارسونها منذ خمسين عاما، ورثتها منهم منذ 20 عاما، أشتري السعف وأنشرها أياماً لتجففها أشعة الشمس، ثم نقطعها ونضعها في الماء حتى تلين، ونباشر في خياطة السلال والأواني والحوافظ والحقائب”.
وتشرح طريقة تلوين هذه المنسوجات قائلة “لدينا صبغة خاصة نحضرها لتلوين المنسوجات وتزيينها، نضعها في برميل ونغليها لمدة ساعة تقريبا مع ورق السعف حتى يتغير لونها(…)، هناك اللون الأخضر والأزرق والأحمر، وكل له استخداماته”.
تعمل حليمة قرابة 16 ساعة يوميا، وتقضي وقتاً طويلا مع هذه الحرفة، وبعد كل هذا العمل الشاق، تنتهي فقط من نسج قطعتين بأناملها الرشيقة.
وتقول “إلى جانب حرصي على الحفاظ على موروث أجدادي، يظل الدافع المادي الحافز الأكبر الذي يجعلني أعمل ساعات طويلة، لأن بيعي أعمالي يتيح لي توفير دخل مادي جيد لي ولأسرتي، لمواجهة الصعوبات وأعباء المصاريف اليومية”.
وتتابع “تلقيت تدريباً لمدة شهر خلال ورشة عمل أقيمت أخيراً لتطوير مهارتي في صناعة السعفيات”.
وبادرت المنظمة الدولية للهجرة بالتعاون مع منظمات محلية نهاية العام الفائت إلى تأهيل العشرات من نساء تاورغاء في صناعة السعفيات، عبر إقامة ورش عمل متخصصة.
وتختم حليمة قائلة “هذه صنعة الأجداد، ونأمل في أن نعلمها لأحفادنا (…)، لا استطيع تركها لأنها تمثل هوية تاورغاء خصوصاً وتعبر عن ليبيا الأم عموماً”.
– منافسة المستورد –
وتُعَدّ مدينة تاورغاء من أشهر المدن التي لا تزال تحافظ على هذه الحرفة التقليدية، وتمتاز منتجاتها بجودتها العالية وكونها تتوافر في معظم مدن البلاد.
وتنافس المنسوجات التي يتم تجهيزها في تاورغاء تلك المستوردة من الخارج، وتعلو الأصوات المطالبة بفتح باب تصديرها، والإفادة من قطاع الحرف اليدوية ومن الأوراق التي توفرها أشجار النخيل.
ويوضح فرج عبد الله، وهو مسؤول جمعية حرفية في تاورغاء، أن منتجات هذه الصناعة التقليدية كانت تصل إلى بعض الدول الإفريقية المجاورة من خلال عمليات المقايضة.
ويذكّر بأن “تاورغاء كانت تقيم في الماضي سوق (الاثنين) الشعبية الشهيرة، وكانت السلال والحصائر والأطباق وغيرها من منسوجات ورق النخيل، تعرض في هذه السوق لمبادلتها بالحبوب والطعام والملابس وغيرها، بل كان التجار يحملون بعضها إلى دول أفريقية”.
ويضيف “على الرغم من الظروف التي مرت بها ليبيا، لكنها لا تزال تتمتع بجودة أعمال منسوجات سعف النخيل، التي لديها كامل القدرة على منافسة المستورد من دول مجاورة”.
وأغرقت السوق الليبية خلال السنوات القليلة الماضية، بمنتجات “السعفيّات” من دول مجاورة كتونس ومصر والجزائر.
ويرى محمود خيري، وهو صاحب متجر لبيع “السعفيات”، أن على السلطات الليبية فتح المجال أمام توريدها للخارج، وبذلك ستتطور هذه الصناعة وتتنامى إيراداتها.
ويضيف محمود لوكالة فرانس برس “يجب وضع قوانين لتصدير منتجات أوراق النخيل، لأن بعض الدول تعتبرها رافداً مهماً لموازناتها العامة، إلى جانب توفيرها فرص عمل تخفف الضغط على الوظائف في القطاع الحكومي”.
وفي ليبيا التي تمتلك تسعة ملايين نخلة، وفقا لآخر مسح أجري عام 2010، لا تتوافر معلومات دقيقة عن الإيرادات المالية التي تدرها هذه الحرفة.
وأنهى اتفاق مصالحة تاريخي بين مدينتي مصراتة وتاورغاء برعاية دولية منتصف العام 2018، عداء بين المدينتين استمر منذ الثورة الليبية على نظام العقيد معمر القذافي عام 2011.
وبموجب الاتفاق سُمح لسكان تاورغاء الأربعين ألفاً بالعودة إلى مدينتهم، وشملت العودة البطيئة حتى الآن نحو ثلث هؤلاء.