سبتمبر نت – هل اصبح العقل السياسي عاجزاً عن صناعة يمن واحد؟
ما هو ثابت وفق قانون الصيرورة التاريخية أن الواحد يتعدد , والتجمعات تعدد فيها الثقافات والنزعات العرقية وقد تترك العوامل التاريخية ظلالاً مؤثرة في الحيوات المستقبلية للأمم
فالجزيرة العربية في التاريخ القديم كانت وحدة جغرافية مترابطة , وكانت مسرحاً لأحداث تاريخية ذات تعدد وذات تنوع , إذ نشأت فيها ممالك وحضارات كانت تتسع بذاتها وبنفوذها في كل جزيرة .
وتحدد المعلومات المعتمدة عند المؤرخين القرن العاشر قبل الميلاد كزمن بزوغ الحضارة اليمنية التاريخية , وترى في ذلك التاريخ بداية حركة التاريخ السياسية والثقافية والحضارية ويقترن ذلك الزمن بسبأ كدولة , أو كحركة تاريخية بأبعاد سياسية وثقافية وحضارية إذ يرى فيها كثير من المؤرخين أنها قطب حركة التاريخ اليمني بكل ما يحمله من أبعاد , فدولة سبأ التاريخية هي أكبر وأهم تكوين سياسي , ولم تكن دولة معين , وقتبان وحضرموت سوى تكوين سياسي تدور في فلكها , فهي قد ترتبط بها – أي بالدولة السبئية أو قد تنفصل , أو قد تندمج فيها لتكون دولة واحدة مثل دولة حمير التي لقب ملوكها بملوك سبأ وذي ريدان .. وذو ريدان هم حمير.
وقد ذكرت النقوش ملكة سبأ التي حكمت في القرن العاشر قبل الميلاد وبعدها ذكرت عدداً كبيراً من المكربين والملوك الذين توالوا الحكم في دولة سبأ , والفرق بين الملك والمكرب هو ان الملك يحكم شعباً واحداً أو قبيلة واحدة بينما المكرب لقب للموحد لعدة شعوب , ووجود المكربين في تاريخ اليمن القديم يوحي بالتعدد ويوحي بنزعة الانتماء للجذر الحضاري والتاريخي , وفي دراسة احصائية لاحد الباحثين في التاريخ القديم وجد أن المكربين أي الموحدين لليمن في الدولة اليمنية القديمة , بلغوا خمسين مكرباً , وكانت احصائية قائمة على التواتر الزمني مبتدئاً من القرن الثامن إلى القرن الأول من قبل الميلاد ومن أولئك كرب إل وتار بن ذمار علي, ويرجع المؤرخون أن صاحب نقش صرواح الكبير الذي ورد مضمونه أنه قام بعدة حملات عسكرية داخلية خلال فترة حكمة يهدف منها إلى تثبيت السلطة المركزية لدولته وتأديب من خرج عنها , وشملت حملاته مناطق أوسان وغيرها من المناطق الجنوبية حتى باب المندب , كما شملت حملاته أيضاً مناطق امتدت ما بين نجران والمعافر من بلاد الحجرية وبعض مدن وادي الجوف مثل نشان , ونشق , ويذكر النقش أنه كافأ المناطق التي حافظت على الولاء له مثل حضرموت وقتبان ويذكر المؤرخين أن سبأ ظلت حتى القرن الخامس قبل الميلاد هي الدولة المركزية القوية ثم بدا يدب الضعف فيها فخرجت عن سيطرتها مناطق عدة واستطاعت تكوين كيانات مستقلة ودخلت الدولة الناشئة في منافسة مع الدولة المركزية وحاولت مشاركتها النفوذ السياسي والتجاري مثل معين , وقتبان وحضرموت .
ويروي المؤرخون أنه في الربع الأخير من القرن الثالث الميلادي انتهت حضرموت كدولة على يد شمريهرعش بن ياسر يهنعم , وهو الملك الذي تنسب إليه الاخبار كثيراً من البطولات والأمجاد وهو من أبرز الشخصيات الملحمية في القصص والحكايات وقد استطاع هذا الملك توحيد الكيانين السياسيين الباقيين وهما سبأ وحمير في كيان واحد , واقام حكماً مركزياً قوياً وحمل لقب ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت واستبدل مأرب كعاصمة بظفار , وقد عرفت هذه الفترة بحمير , وكان من أبرز تجلياتها بروز أبي كرب أسعد الكامل الذي حكم في مطلع القرن الخامس الميلادي وقد لقب بملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم طوداً وتهامة , في زمنة عرفت اليمن الديانة التوحيدية وقيل أنه كان يحكم الجزيرة العربية كلها .
ومع دخول الديانات التوحيدية إلى اليمن حدثت النزاعات والانقسامات على أبعاد ثقافية ودينية , وفي السياق ذاته بدأت التداخلات الخارجية كالأكسومية والفارسية وبغرق أسأر يثأر المعروف في التداولات العامة بذي نواس يكتب التاريخ نهاية الدولة الوطنية التاريخية لتبدأ الاكسومية ثم الفارسية ثم يبدأ العصر الإسلامي بدخول اليمن للإسلام .
خضعت اليمن للدولة الإسلامية الجديدة وارتبطت بالمدينة المنورة وبدمشق وببغداد وثمة حركات في التاريخ الإسلامي كانت ترمي إلى استعادة المجد التاريخي وظلت تقاوم روح الفناء والتماهي وقد استطاع الملك علي ابن الفضل أن يحكم كل اليمن , وتمكن الرسوليون بقيادة مؤسس ملكهم الملك المنصور من توحيد اليمن كلة من حضرموت جنوباً وحتى مكة شمالاً , وبسطوا سيادتهم الفعلية على كل الجهات بما فيها الجهات الزيدية , وقد جابهوا الكثير من حركات التمرد في اكثر من جهة شأنهم في ذلك شأن الحركات والتعبيرات السياسية الوطنية في حقب التاريخ المختلفة .
ويتحدث التاريخ الإسلامي انه بخروج الاتراك من اليمن بعد حملتهم الاولى عام 1635م استطاع الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم توحيد اليمن , على اسس الجغرافيات الطبيعية والامتدادات التاريخية , أي من أقاصي الجنوب والشرق, حضرموت وظفار إلى اقاصي الشمال باستثناء مكة , في ذات النسق الذي كان الحال السياسي في اليمن الموحد في العهد الإسلامي في دولة الرسوليين ودولة الصليحين .
وبعد حركات الانقسامات التاريخية في القرن الثامن عشر الميلادي , ينفصل القسم الشمالي اقليم عسير لصالح الدولة الوهابية السعودية الاولى ثم لصالح محمد علي باشا في مصر وينتقل الاقليم من اشراف المخلاف السليماني الى الادارسة ثم إلى الدولة الوهابية السعودية الثانية في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين الميلادي , ويعود العثمانيون من جديد عن طريق تهامة عام 1849م وبدخول محمد علي باشا في المعادلة الوطنية يدخل الانجليز في عدن ثم تبدأ الانقسامات على أسس جهوية وطائفية وعرقية وثقافية , فالسلطنات تنشط في الجنوب والزيدية تنشط في شمال الشمال والهضبة الوسطى إلى يريم والعثمانية تفرض هيمنتها على مفردات الفعل السياسي الوطني في جل جغرافيات الشمال وبريطانيا بوجود قوتين أجنبيتين هما بريطانيا في عدن والعثمانيون ( الاتراك) في صنعاء , يضطران تحت ضغط النفوذ أن يوقعا في عام 1914م معاهدات ترسيم حدود النفوذ بينهما وعند هذا العام شهدت اليمن الانقسام وفق المعاهدة البريطانية التركية إلى 90م عام إعلان الوحدة الوطنية, ولم تطرأ على ذلك الاتفاق سوى بعض الاستحداثات للبريطانيين في أيام الدولة المتوكلية , منذ تاريخ المعاهدة التي حددت مناطق النفوذ أي منذ 1914م أطلقت بريطانيا تسمية الجنوب العربي لإعطاء الجزء الذي يسيطرون عليه أهمية اعتبارية مستقلة وتابعة لهم ومنفصلة عن هويتها التاريخية والحضارية حتى يسهل عليها فرض ثنائية الهيمنة والخضوع واستمرارها .
وعند هذه النقطة الفاصلة التي تم فيها تقسيم اليمن إلى دولتين وتم فصل الجنوب عن هويته التاريخية بإطلاق تسمية الجنوب العربي تلتقي التوافقات بين حركات الانقسامات الحديثة حيث يصر الحراك الجنوبي على تسمية الجنوب بالجنوب العربي منفصلاً عن هويته الحضارية والتاريخية وذهبت رؤيتهم إلى نفي يمنية اليمن ومثل ذلك المذهب من القول لا يتسق مع البنية التاريخية التراتبية الممتدة من بدء النشأة للدولة التاريخية اليمنية إلى عام 1914م وهو العام الذي تم التوافق فيه بين قوتين غير وطنيتين على ترسيم حدود مناطق النفوذ وهما الدولة العثمانية التي كانت تحتل الجزء الشمالي والدولة البريطانية التي كانت تحتل الجزء الجنوبي .
ويتضح من خلال السرد التاريخي المقتضب في سياق هذا الموضوع الذي يعتمد اقوى المصادر التالي:-
1-إن حركة الانقسامات في الحركة التاريخية كانت نشطة في حال فقدان القوة والنفوذ , والشعور بعدم قدرة المركز في التعبير عن الكيانات (الأقيال ) في حقب التاريخ المختلفة
2-نزعة التوحد والالتحام بالجذر التاريخي والحضاري والتكويني كانت أيضاً أكثر نشاطاً فوجود أكثر من خمسين ملكاً مكرباً أي موحداً يجمل دلالة كبيرة في واحدية الجغرافيا والهوية التكوينية الحضارية والثقافية
3- ظلت الهوية الوطنية واحدة طوال حقب التاريخ المختلفة ولم تشهد انقساماً في الجغرافيا إلا ما بين قوتين غير وطنيتين ولم يكن ذلك الانقسام تعبيراً عن حالة وطنية واجتماعية بل تعبيراً عن حالة سياسية لقوتين غير وطنيتين , ولذلك ظل الاشتغال على هاجس الوحدة في النظامين الثوريين في الشمال والجنوب كامتداد لحنين التوحد التاريخي وهاجسه كاستجابة لضورة تاريخية تفرضها مفردات التكوين وواحدية الهوية والانتماء .
وتأسيساً على كل تلك الاستخلاصات والتموجات التاريخية في التعبير والتأسيس السياسي اليمني نجد أن يمنية اليمن قضية منطقية ثابتة ولا يمكن للقوى السياسية المناهضة المزايدة بها أو نفيها لأنها بذلك تضرب الهوية اليمنية في بعديها الحضاري والتاريخي في العمق وتحاول تعطيل حركة التاريخ وقانونه , فتعدد الواحد كصيرورة زمنية لا تستدعي النفي التاريخي ولا التجرد من البعد الحضاري, ولا التنكر للهوية , بإمكان الواحد أن يتعدد مع احتفاظه بكل مكونه الحضاري والتاريخي والثقافي فالشعور بالحالات القهرية لا يبرر العودة إلى نقاط تاريخية بحثاً عن معادل موضوعي كي يحقق قدراً من التوازن النفسي والاجتماعي فالانفصال بالضرورة التاريخية يفضي إلى هاجس التوحد , وهاجس التوحد بالضرورة التاريخية يفضي إلى الانفصال , وهنا تكمن الاشكالية الوطنية , وهي إشكالية تاريخية ذات عمق وتجذر ونظن ان الاستمرار في متواليتها وحلقات سلسلتها الزمنية لن يحمل عصا سحرية لتبدد كل ذلك الإرث والتراكم في المساقات والسياقات العامة فالتغير الحقيقي يبدأ من تلك اللحظة التي ندرك فيها قانون التاريخ وهي اللحظة التي تجعلنا في تفكير مستمر في كيفية التعامل مع ظلاله العام وكيفية الاشتغال على عملية لي مساره وبما يحقق قدراً كافياً من الاستقرار والنماء والتجديد والتحديث وبما يحقق قيمة الذات ويجعلها في تناغم كامل مع مكونها العام لا في عملية تضاد كما نلحظ , فشعار استعادة الدولة يحمل في طياته دلالات غيابها , والغياب ليس بدلالة كثافة حضورها في زمن حكم المنظومة الاشتراكية كما تذهب بعض القوى إلى ذلك بل هو غياب قيم الحق والخير والعدل والسلام.
لذلك فالانفصال ليس حلاً لإشكالات الانسان كما ان الوحدة الاندماجية التي سطرتها مفردات القوة في صيف 1994م ليست حلاً ايضاً والحل يكمن في قدرة العقل السياسي على احداث التناغم والانحراف في السياق التاريخي وهي معادلة صعبة لكنها قابلة للتحقق.
فالعقل السياسي الوطني لن يكون عاجزاً عن صناعة يمن واحد موحد متناغم ونام وقادر على مواجهة عواصف الاحداث ويشعر بالقدر اللازم من الاعتزاز والامتلاء الحضاري , فشكل الدولة الجديدة لابد أن ينسجم مع تطلعات الانسان وصيرورة التاريخ ولابد أن يتناغم بين الواحدية والتعدد والبحث عن مفردات الاستقرار والتنمية يفرض بالضرورة بحثاً عن منابع الصراع وبواعثه وتفكيراً في التقليل والحد منه وبما يحقق شعورا عاما بالوجود والفاعلية والتأثير وبالشراكة .