هاني النقراشي يكتب لـ جسور: طريقة أخرى لإمداد القطار السريع بالكهرباء

 

بعد توقيع عقد إنشاء المرحلة الأولى من القطار السريع بطول 660 كيلومتر يربط بين العين السخنة ومرسى مطروح تم الإفصاح عن التوجه للمراحل التالية وهي خط يمتد من القاهرة جنوبا إلى أسوان وخط آخر من العين السخنة بحذاء ساحل البحر الأحمر إلى سفاجة، وستبلغ الأطوال الكلية لهذه الشبكة 1800 كيلومتر وهذا إنجاز نتوقع أنه سيفتح الطريق لنمو سريع في الاقتصاد، وهو ما نرى بشائره الآن. لقد جاء تخطيط هذه الشبكة في وقته لينتظم في الطفرة الاقتصادية الحالية ليعطيها دفعة أخرى، ولو تأخر المشروع لنتج عن هذا التأخير فرملة نمو الاقتصاد.

حمدت الله أن التخطيط متكامل لتكون شبكة القطارات السريعة متوافقة بحيث تريح الراكب وناقلي البضائع أيضا. حمدت الله أيضا أن وقع الاختيار على أن تكون الطاقة الدافعة للقطار هي الطاقة الكهربائية، حيث أن التخطيط التقليدي يتجه إلى تسيير القاطرات بوقود الديزل بسبب طول المسافات. ولكن المخطط وضع أمام عينيه الهدف الأعلى المعلن وهو “الاستدامة” ولا يغيب عنا أن الرئيس عبد الفتاح السيسي يضع الاستدامة الحقيفية دائما في مقدمة كل مشروع، وانا أرى أن المدة الزمنية للاستدامة بمصر يجب أن تكون مفتوحة للمستقبل أي أن ننظر لكل تصرفاتنا ونقيمها من ناحية أثرها البيئي والصحي والأخلاقي بحيث ألا تترك أثرا سلبيا على الأجيال القادمة. ولا شك أن تشغيل القاطرات بوقود الديزل سيترك آثاره الضارة على الهواء وبالتالي على صحة الانسان. أما الكهرباء فلا ضرر مباشر منها لو كان إنتاجها متجددا. وهنا ندخل في لب الموضوع.

إنتاج الكهرباء في مصر يعتمد بشكل أساسي على الغاز الطبيعي (الأرضي) وهو مثل أي وقود أحفوري آخر ينتج عن حرقه غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يسبب ظاهرة الاحتباس الحراري التي تعاني منها البشرية الآن حيث أن آثارها الضارة في صورة فيضانات وإعصارات مدمرة بدأت في التزايد والشدة.

فضلا عن أن الغاز الأرضي المخزون في باطن الأرض محدود ومآله إلى الزوال مثل باقي أنواع الوقود الحفرية. لذلك يقودنا تطلعنا إلى الاستدامة أن نستخدم المتاح في أرضنا من الطاقات المتجددة، فيخطر على بالنا طاقة الرياح والطاقة الشمسية بعد أن استنفذنا طاقة المياه المتاحة من السدود على أكمل وجه.

طاقة الرياح متقلبة لحظيا وموسميا، غير ذلك فهي تعطي ناتجا اقتصاديا في بعض الأماكن دون غيرها، لذلك ينتظم استعمالها تحت ظروف معينة فقط. أما الطاقة الشمسية فهي متاحة بفضل طقس مصر المعتدل في كل مكان من أرض الكنانة، لذلك يكون استخدامها أنسب للتخطيط المستقبلي الذي يجب أن يمتد بخيره على كل أنحاء مصر.
استخدام الطاقة الشمسية بوضع اللوحات الضوئية (الفوتوفلطية) في المناطق المتاحة من الصحراء، وما أكثرها، يعطي طاقة كهربائية نهارا تبدأ تدريجيا بعد شروق الشمس وتصل إلى ذروتها وقت الظهيرة ثم يبدأ إنتاج الكهرباء في النضوب إلى قبيل الغروب وينتهي إلى الصفر طول الليل، ولم توجد للآن وسيلة اقتصادية لتخزين الكهرباء بكميات كبيرة لعبور الليل.

ولكن الإشعاع الشمسي الذي تتمتع به مصر يفيض علينا بخيرات أكثر من الضوء فحسب، لأنه بجانب الضوء يأتينا بالحرارة التي تصاحب الأشعة المباشرة التي لا تحجبها السحب إلا نادرا وهذه الأشعة المباشرة تسمح بتركيزها في بؤرة فترتفع فيها درجة الحرارة إلى درجات حرق الوقود. وبما أن الحرارة صورة من صور الطاقة مثل الكهرباء ويتم تحويلها إلى كهرباء في محطات الكهرباء الحفرية، إذن يمكن تخزين الحرارة – وهذا التخزين متاح اقتصاديا – لاستعمال هذه الحرارة لتوليد الكهرباء ليلا على أن يكون المخزون كافيا لعبور الليل.

 

الصورة تبين محطة كهرباء شمسية حرارية في اسبانيا حيث تعكس المرايا أشعة الشمس على بؤرة في قمة برج وضع في مركز الدوائر المرتبة فيها المرايا. وطبعا كل مرآة يحركها محرك خاص بها لتتبُّع حركة الشمس فتعكس الشعاع الساقط عليها ليقابل البؤرة في كل أوقات النهار. ثم يُدفع بسائل خاص يتحمل الحرارة العالية الناتجة عن تركيز الإشعاع الشمسي من الصهريج البارد إلى شعاب البؤرة ليمتص الحرارة ويأخذها إلى الصهريج الساخن حيث يبقى مخزونا إلى الاحتياج له لإنتاج الكهرباء.

هذه المحطة تعمل في إسبانيا منذ 2011 وبها تخزين يكفي تشغيلها 15 ساعة بقدرتها القصوى أي يمكنها من عبور الليل. وهذا النوع يصلح لاستخدامه في مصر ولا يحده إلا أن قدرة المحطة محدودة، أي أن تعبير “محطة عملاقة” لا ينطبق عليها. وهذا التعبير له مغزى اقتصادي وهو أن بناء وتشغيل محطة كهرباء كبيرة يكون عادة أقل تكلفة عن بناء وتشغيل عدة محطات صغيرة بنفس قدرة المحطة الكبيرة.

ولكننا يمكن أن نحوّل هذه المحدودية وما يتبعها من نقص في إقتصادياتها إلى ميزة ممتازة تتغلب على كل السلبيات، إذ أننا يصدد تقنية حديثة وهذه تكون عالية التكاليف في بداية استعمالها ولكن تكلفة انتاجها تنخفض مع زيادة الوحدات في السوق. إذن بدلا من تصميم وحدات كبيرة لخفض التكلفة يمكننا أن نسلك طريق أخرى وهي زيادة عدد الوحدات الصغيرة المُنْتَجة على أن تكون نمطية ونستفيد من القدرة الصغيرة لأنها تتيح وضعها قرب مواقع الطلب على الكهرباء فنوفر بذلك تركيب خطوط نقل طويلة للكهرباء مع ما يتبعها من تكلفة صيانتها وتكلفة الفاقد الكهربائي عند نقل الكهرباء لمسافات طويلة.

التفكير في هذا الاتجاه يقودنا إلى الصورة الثانية وهي تمثل نموذجا لما يمكن تحقيقه على أرض مصر وهو ترتيب مجموعات من خمس محطات شمسية نمطية في شبكة فرعية تغذي منطقة حيوية. واختيار العدد خمسة ليس فقط للتفاؤل بـ “خميسة” بل لأن أغلب شبكات الكهرباء يكون تحميلها موسميا أي يختلف بمقدار حوالي 20٪ بين الصيف والشتاء. لذلك يمكن عمل الصيانة الدورية في فصل قلة الطلب على الكهرباء بإيقاف محطة واحدة من المحطات الخمس حيث أن المحطات الأربع المشتركة معها في خميسة تكفي لتحمل الطلب. وهكذا تتم عملية الصيانة الدورية لمدة أسبوع أو إثنين لكل محطة بدورها دون أنقاص الإمداد الكهربائي للشبكة. هذه الشبكة معززة بوحدة طوارئ تعمل بالغاز الطبيعي أو النباتي لضمان استمرار الكهرباء في كل الأحوال على مدار السنة.

 

هذا النموذج يوفر المرونة الكافية لوضع شبكات خميسة قرب مسار خط القطار الكهربائي الجديد حيث أن مسار القطار يمر بالمناطق السكنية والصناعية وهي تحتاج أيضا للكهرباء.

أما الميزة الكبرى فهي الاستغناء شبه الكلي عن الوقود الحفري الذي يمكن استخدام المتاح منه في الصناعات الكيماوية أو تصديره ليدر دخلا يحفز التنمية المستدامة، وفوق ذلك يوفر أكثر من ألف مليار دولار على مدى 33 عام تصرف للآن على حرق الوقود لإنتاج الكهرباء.

After Content Post
You might also like