للحفاظ على التراث.. القومي للبحوث ينتج أول موسوعة أكاديمية للأغذية المصرية الشعبية 

تتميز مصر بالتنوع الجغرافي شديد الخصوصية، حيث تتمتع كل محافظة من محافظاتها بشخصيتها الحضارية المستقلة والمندمجة فى ذات الوقت، ولكل منها أكلاتها الشعبية التراثية التي تستلهم صبغتها من طباع وتقاليد البيئة المحيطة ومدي توفر المحاصيل الزراعية والثروات الغذائية المختلفة. 

ومن عظم حضارتنا الفرعونية الراسخة، فقد قام أجدادنا بتوثيق كل ما يخص حياتهم اليومية من مأكل ومشرب على جدران المعابد والمقابر مما أورثنا ارث ثقافي وتراثي عظيم محل انبهار العالم حتي الآن.

ومما لا شك فيه أنه لولا علم التوثيق الذي اتبعه قدماء المصريين لاندثر كل هذا التراث العظيم وللأسف الشديد وعلى العكس تماما من حضارتنا العظيمة نجد أن تراثنا الغذائي المعاصر بشكل خاص قد قارب على الانقراض مما قد يؤدي الي طمس للهوية المصرية ,ولهذا علينا أن ننتبه جيدًا للحافظ على أكلاتنا المميزة من الاندثارو التي تشكل جانب غاية فى الأهمية من حضارتنا الحديثة.

إن الطعام ليس أداة من أدوات الحياة فحسب، وليس عاملًا من عوامل الدعم الجسدى فحسب، وإنما هو دليل إبداع وعبقرية خاصة لكل شعب من الشعوب وطريقة حياة وفرض هيمنة ومصدر ثروة، ومثال واضح وملموس على الحوار الذى أقامه الإنسان مع بيئته ومعطياتها.

ومما يستحق الانتباه ملاحظة المؤرخ هيرودوت بعد زيارته لمصر الفرعونية أن قوة أجسام المصريين القدماء وصحتهم تعود إلى طبيعة الغذاء في ذلك الوقت ولذا فجانب كبير من الدواء يكمن في إعداد وجبة غذائية صحية ومتزنة.

ليس هذا فحسب بل قد يلعب هذا التراث الغذائي دور القوة الناعمة في غزو ثقافي وفكري وحضاري للشعوب الأخري ونفوذ مادي وهيمنة رأسمالية سواء من خلال الرواج الثقافي لبلد ما من خلال أكلاتها أو علي مستوي التنشيط والرواج السياحي فأول ما يسترعي انتباه أي سائح هو أكلات وجهته السياحية وفى هذا يتفاخر البعض على البعض، وتنشأ معارك تاريخية بين البلاد حول أصل ونشأة أكلة ما.

ولذا بات لزاما علينا كعلماء متخصصون أن نقوم بدورنا في الحفاظ علي تراث مصر الحضاري من الأكلات الشعبية والتي لا تؤرخ فقط لبعد غذائي بل تلعب دور توثيقي سياسي وجغرافي واقتصادي عظيم، ولذلك فقد كان من الأهمية بما كان أن تقوم أكاديمية البحث العلمي ذلك الصرح العلمي الحصين بدورها فى الحفاظ على التراث المصرى، وتبني أول موسوعة أكاديمية للأغذية المصرية الشعبية.

وقد تم إصدار العدد الأول من الموسوعة الرائدة لتوثيق تراث الغذاء في الأقاليم والمحافظات المصرية تحت عنوان “الخبز و المخبوزات”، وصدرت الموسوعة عن أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا بالاشتراك مع المركز القومي للبحوث برئاسة أ.د. محمد محمود هاشم.

وتهدف إلى رصد تاريخ الأطعمة التراثية في مصر وتوثيق العناصر الغذائية وطرق التحضير فضلا عن تحديد مخاطر اندثار هذه الثقافات الغذائية.

ساهم في هذه الموسوعة 12 مشاركا يتقدمهم أ.د. محمود صقر رئيس أكاديمة البحث العلمي والتكنولوجيا، والمحرران الرئيسان للموسوعة هما: أ.د مجدي السيد الرئيس الأسبق لشعبة الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث و عضو اللجنة الوطنية للتغذية ود. نهال سامح رمضان الباحثة بالمركز القومي للبحوث و الحاصلة علي درجة الدكتوراه في الصيدلة و عضو لجنة الثقافة العلمية بالمركز القومي للبحوث.

المجلد الأول الذي صدر هو باكورة عدة مجلدات ينتظر صدورها خلال السنوات المقبلة توثق وتؤرخ للمأكولات المصرية الشعبية.

جاء المجلد الأول عن الخبز و المخبوزات في أكثر من 500 صفحة ويضم مئات الصور الميدانية الخاصة بطرق إعداد المخبوزات تفصيليا وصولا إلي المنتج النهائي وصور من البيئة المحيطة بالإضافة إلى عشرات الخرائط والأشكال الجغرافية.

كما يتضمن المجلد عرض لمجموعة كبيرة من صور عينات الخبز المصرية في المتاحف العالمية، والموسوعة كتبت باللغة الإنجليزية مع ملخص وافي باللغة العربية يذيل كل نوع من أنواع الخبز والمخبوزات.

ويعود حرص المؤلفين على كتابة بحوثهم باللغة الإنجليزية كي تكون المعلومات والأفكار مستعدة لمخاطبة النشر والتداول المعلوماتي الدولي، لا سيما أن جهود التوثيق من هذا النوع تخاطب المجتمع العلمي الدولي المعني في السنوات الأخيرة بجهود التوثيق الثقافي.

جاءت الموسوعة في عدة أجزاء تتضمن:

أولا: فصل تقديمي عن أهمية الخبز في مصر.

ثانيا: تأصيل اجتماعي و جغرافي للخبز والمخبوزات التي تم توثيقها في المحافظات المختارة و يحتوي هذا الجزء علي فصل يقع تحت عنوان:

The Geography behind food cultures in Egypt بقلم الجغرافي العتيد أ.د. عاطف معتمد الأستاذ بكلية الأداب جامعة القاهرة.

هذا الفصل الجغرافي هو في الحقيقة تأسيس لمفهوم بسيط يشرح كيف يمكن لمقومات البيئة الطبيعية في مصر أن توجه ثقافات الغذاء، ما بين الريف والحضر ونمط الحياة بين الاستقرار والارتحال والتنوع البيئي بين السواحل والجبال والصحاري والسهل الفيضي.

حيث قُدم في هذا الفصل خلاصة أسفاره الميدانية وما سجله من ملاحظات عن الجوانب الثقافية التي تؤثر على هذا النوع من توثيق الهوية المكانية فضلا عما وثقه من أهالينا البدو في صحراء مصر الشرقية.

ثالثا: تأصيل تاريخي للخبز و المخبوزات في مصر في مختلف العصور بداية من الدولة المصرية القديمة و حتي بداية الدولة المصرية الحديثة.

أوضح أ.د. مجدي السيد و د. نهال سامح تطرق المجلد للجانب العلمي لما تم توثيقه خلال رحلاتهم الميدانية لتوثيق الارث الغذائي المصري من خلال فصل عن المكونات الداخلة في تصنيع الخبز و المخبوزات التي تم توثيقها وموادها الفعالة و الفوائد الغذائية و الطبية لها.

ثم يحملك الكتاب في ثنياته في رحلة عبر أنحاء مصر المختلفة للتعرف علي أنواع الخبز والمخبوزات في ربوع مصر عبر أقاليمها المختارة ما بين الصعيد و الدلتا و الصحاري و سواحل البحر الأحمر حيث يجد القاريء نفسه متنقلا ما بين أنواع من الخبز المخمر ما بين الشمسي و البلدي و البتاو و المخمر فضلا عن الخبز المسطح بأنواعه المختلفة مثل البتاو الفلاحي و الرقاق.

كما يقودك المؤلفان في رحلة عبر صحاري مصر للتعرف علي الخبز البدوي بأشكاله الشتي ما بين الفراشيح و المجردق و القابوري و خبز الصاج فضلا عن الفطائر و المقليات المصرية الخالصة . كل ذلك في اطار علمي متأدب جذاب شديد الاحترافية مع وصف تفصيلي مصور لكل خطوات الاعداد و التحضير. ثم يختتم المجلد بجزء مصور عن الأدوات التي تستخدم في عمليات الاعداد و التصنيع للخبز و المخبوزات, بالاضافة الي خريطة مصورة مع ربط أنواع المخبوزات بجغرافيتها.

المجلد الأول تجربة متفردة و مزيج شهي ما بين وصفات طهي وتقدير للقيمة غذائية فضلا عن رصد مخاطر الاندثار و غيرها من المعلومات التي تجعل من هذا المجلد هدية قيمة تستحق الاقتناء و محاولة مخلصة للحفاظ علي هويتنا المصرية الغذائية.

After Content Post
You might also like