ناصر تركي يكتب: تدهور الأسرة.. صراع الأمهات بين التقليد والأصالة في زمن التحديات

شهدت مجتمعاتنا العربية خلال العقدين الماضيين تحولات جذرية طالت بنية الأسرة وقيمها الأساسية. ففي ظل تسارع وتيرة التغيرات الاجتماعية والثقافية، باتت الأسر تواجه تحديات غير مسبوقة، ولعل من أبرز هذه التحديات ظاهرة تقليد الأمهات لأبنائهن في تصرفاتهم وملابسهم، وهو ما يعكس صراعًا داخليًا بين الرغبة في مواكبة العصر والحفاظ على الهوية الأصيلة والتقاليد الراسخة.

 

تباين التعليم وتأثيره على التربية

 

إن أحد الأسباب الرئيسية وراء هذا التحول يكمن في الاختلاف الجوهري بين مناهج التعليم في الماضي والحاضر. فبينما كان التعليم في السابق يركز على بناء الشخصية وتأصيل القيم الأخلاقية والاجتماعية جنبًا إلى جنب مع الجانب الأكاديمي، أصبحنا اليوم أمام “هجمة أجنبية” تتمثل في انتشار المدارس ذات الأنظمة التعليمية الأمريكية والإنجليزية، وغيرها من النظم التي قد لا تتماشى مع قيم مجتمعاتنا العربية الأصيلة. هذه المدارس، ورغم تكلفتها الباهظة التي تشكل عبئًا كبيرًا على الأسر، يتم اختيارها في سبيل الحصول على تعليم “مميز”، ولكن للأسف، غالبًا ما يتم إغفال الأساس الجوهري وهو التربية قبل التعليم.

 

لقد أدى هذا التباين إلى ظهور ظواهر غريبة لم نعتادها في مجتمعاتنا، بغض النظر عن اختلاف الديانات. فجيل اليوم، الذي نشأ في ظل هذا الواقع التعليمي الجديد، أصبح يمتلك منظومة قيم مختلفة، مما يضع الأم في حيرة بين دورها التقليدي كمربٍ وحارس للقيم، وبين رغبتها في الانفتاح على العالم ومواكبة أبنائها.

 

السوشيال ميديا وحياة المظاهر

 

تفاقمت هذه الظواهر مع الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي. فلقد تحولت الشاشات الصغيرة إلى مسارح للتباهي وعرض أدق تفاصيل الحياة الشخصية، مما أشعل صراعًا مجتمعيًا حول المظاهر والبذخ. أصبحنا نرى تنافسًا محمومًا في عرض البيوت الفاخرة، والديكورات العصرية، والملابس الباهظة، والحفلات والأفراح التي تفوق القدرة المالية للكثيرين. هذا التباهي أفرز للأسف مجتمعًا صار فيه الأساس هو حياة المظاهر والإنفاق المفرط.

 

وفي خضم هذا الصراع، بات دور الرجل في الأسرة محل تساؤل. فبعض الرجال أصبحوا سعداء بهذه “الحريات” كجزء من الوجاهة الاجتماعية، أو لإرضاء أسرهم نظرًا لانشغالاتهم، بينما بلغ الكيل بالبعض الآخر حد اليأس، فتركوا الحابل على الغارب، وانصرفوا إلى اتجاهات أخرى، والله وحده يعلم بها.

 

الأسرة العربية بين التقليد والضياع

 

إن ما يحدث في مجتمعاتنا العربية هو تقليد أعمى للغرب، وتبني لثقافات لم نعتادها، مما أدى إلى تحول جذري في ديناميكية الأسرة. لقد أصبح الأبناء هم المتحكمين في الكثير من الأمور، وتحولت الأم إلى صراع بين تقليدها لهم لمواكبة العصر والتحضر، وبين واجبها في الحفاظ على كيان الأسرة وتربيتهم على الأصول والتقاليد. هذا الصراع أدى إلى نتائج وخيمة، تجلت في ازدياد حالات الطلاق والعنوسة التي فاقت كل الحدود، مما ينذر بتفكك البنية الأساسية للمجتمع.

 

دعوة إلى حوار صادق

 

أمام هذه التحديات الجسيمة، بات لزامًا على المجتمع بأسره فتح حوار صادق ومكاشفة حقيقية. يجب أن نسعى جاهدين للحفاظ على ما تبقى من قيمنا وأخلاقنا الأصيلة، وإعادة الاعتبار لدور الأسرة كمؤسسة تربوية واجتماعية. يجب أن نعيد التوازن بين الانفتاح على العالم وبين التمسك بهويتنا، وأن ندرك أن التربية السليمة هي أساس بناء أجيال قادرة على تحمل المسؤولية وبناء أسر مستقرة في المستقبل. فالأمر لم يعد مجرد رفاهية، بل هو ضرورة ملحة لإنقاذ مجتمعاتنا من الانحدار.

After Content Post
You might also like