الروائي يحيى مختار: الإبداع المصري ليس بخير.. ولا يوجد مشهد ثقافي نوبي (حوار)

رغم تركه قريته النوبية «الجنينة والشباك» في الثامنة من عمره، في فترة تهجير النوبيين لبناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي، وقدومه إلى القاهرة وهو لا يملك سوى اللغة النوبية، ليصبح من أهل المدينة، ظلت ذكريات طفولته وما يرتبط بها من هوية ثقافية عالقة في ذهنه دون مفارقة، ليدخل الكُتّاب ويتعلم اللغة العربية ومن هنا بدأ الاطلاع على الثقافات المختلفة التي شكلت ذائقة أدبية لها خصوصيتها.

يحيى مختار، أحد أعمدة ما يعرف بالأدب النوبي أو أدب الجنوب، أخذ على عاتقه مسؤولية توثيق الثقافة النوبية بما تنطوي عليه من تفصيلات صغيرة وكبيرة، وتاريخ وحضارة وعادات وتقاليد ولغة، وكرس مشواره الإبداعي الذي بدأه منذ أن كان طالبًا بكلية الآداب قسم الصحافة بجامعة القاهرة لحماية تلك الثقافة من الاندثار ونقلها للأجيال الجديدة التي لم تعرف النوبة سوى من القصص.

تناول يحيى مختار الثقافة النوبية في أعماله الإبداعية التي تتنوع بين الروايات والقصص القصيرة، وتدور خلف جدران البيوت النوبية ولكل قصة طابعها الذي يبرز تفاصيل مختلفة عن تلك الثقافة، ومن بينها؛ «كويلا»، «إندو ماندو»، «جدو كاب»، «جبال الكحل»، «مرافئ الروح».

رواية مرافئ الروح

«المصري اليوم» حاورت الروائي يحيى مختار عن النوبة وثقافتها وشعبها وعاداتها، وأعماله الأدبية، والمشهد الثقافي النوبي والإبداعي بشكل عام، وإلى نص الحوار.

لماذا حصرت أعمالك في موضوع واحد هو النوبة؟

الإنسان يمر في حياته بتجارب كثيرة ومتنوعة، ويمكن أن يكون منها ما هو جدير بالكتابة عنه، لكن تظل هناك بعض التجارب هي الوحيدة التي تستأثر باهتمام الكاتب وتحرك لديه الرغبة في الكتابة، هنا يكمن فعل الاختيار، ولأن تجربتي في قريتي لها فرادتها الخاصة في تكويني وحياتي فاستأثرت باهتمامي لعمق خصوصية الحياة في النوبة، النوبة لها لغة مغايرة وعادات وتقاليد خاصة تختلف عن عادات وتقاليد باقي أقاليم الوطن، ولم يتم التعبير عنها قبل خوضي للكتابة سوى من قبل صديقي الراحل محمد خليل قاسم في روايته الوحيدة والفريدة «الشمندورة».

كيف ترى الحديث عن مصرية النوبة؟ ولماذا ترفض مصطلح الأدب النوبي؟

لم ترتفع نبرة الحديث عن مصرية النوبة إلا بعد بناء السد العالي وتهجين النوبيين عن وطنهم عام 1964، بل إن هناك مواطنون لا يعرفون النوبة وأين موقعها، وأنها إقليم أصيل من أقاليم مصر، ومكون من مكونات الوطن جغرافيًا وتاريخيًا، وقال عنها العالم المصري العظيم الدكتور جمال حمدان «النوبة سقف مصر».

أما عن رفضي لمصطلح الأدب النوبي، فيرجع إلى إيماني العميق أن الأدب والإبداع الأدبي يُنسب إلى اللغة التي يكتب بها وهذا أمر لا جدال فيه. اللغة عندي مرتبطة برؤيتي للوجود الذي نشترك فيه جميعًا، إذ أن لكل منا رؤيته الخاصة وفقًا لتأثير المكان على الحواس والعقل لينعكس على مفردات اللغة المستخدمة مانحة إياها سمة خاصة مستمدة من كينونتها العميقة، لذلك لكل مبدع لغته التي تختلف عن لغة أقرانه.

وإذا انتقلنا من الحديث عن الأدب النوبي، فهناك ثقافة نوبية خاصة متداولة بين النوبيين باللغة النوبية بلهجتها «الكنزية» والتي تشتمل على الحكاوي والأساطير النوبية والأغاني والعادات والتقاليد والأشغال والحرف التي ارتبطت جميعها بالحياة النوبية.

إلى جانب الروايات التي تتحدث عن النوبة، لماذا لم تكمل قصصك البعيدة عن الشأن النوبي؟

قصصي البعيدة عن الشأن النوبي هما قصتان قصيرتان فقط، واحدة عن نكسة 1967 باسم «قطة من العصر المملوك» نشرها الصديق الراحل الروائي عبد الفتاح الجمل في جريدة «المساء» والثانية باسم «البناء» ونُشرت في مجلة «صوت الجامعة» التي كنا نصدرها كطلاب في قسم الصحافة بكلية الآداب أثناء فترة دراستي، وتوقفت عن هذه الكتابات لشغفي بالكتابة عن النوبة.

لماذا لم تنشر مجموعتك القصصية الأولى لمدة عشرين عاما؟ وما الذي دفعك لنشرها بعد مرور كل هذه المدة على كتابتها؟

فور كتابتي مجموعة «عروس النيل» قدمتها لمجلة «المجلة» وكان الدكتور عبدالقادر القط رئيس تحريرها في ذلك الوقت، وبعد اطلاعه عليها أبدى إعجابه بها وقرر نشرها، لكن قبل نشرها صدرت أوامر بغلق جميع المجلات التي تصدرها وزارة الثقافة ومن بينها «المجلة»، وحينها لم يكن متاحا للمبدعين نشر إبداعاتهم إلا على نفقتهم الخاصة، الأمر الذي دفع مجموعة من الكُتاب من جيل الستينيات إلى إصدار مجلة خاصة على نفقتهم في نُسخ محدودة تحت اسم «جاليري»، ولكني أرى -مثل كثير من الكُتاب- أنه على المبدع ألا يكون مبدعًا وناشرًا في آن واحد.

ووفقًا لطبيعة عملي في مؤسسة «أخبار اليوم» كنت على صلة وثيقة جدًا بعدد كبير من الناشرين الذين يرحبون بنشر ما أطلبه منهم لكني أبيت أن أستغل هذه الصلة لحسابي الخاص واكتفيت بنشر «عروس النيل» في الملحق الثقافي لمجلة «الطليعة» التي كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام آنذاك، ثم توقفت تمامًا عن الكتابة لما أصاب الحياة الثقافية من بوار خلال فترة السبعينيات والثمانينيات.

وفي أوائل التسعينيات تولى الروائي الراحل وصديقي جمال الغيطاني الإشراف على قطاع الثقافة، وطلب مني المجموعة التي كان على علم بأنها موجودة منذ عشرين عاما، وتم نشرها عن طريق قطاع الثقافة تحت عنوان «رباعية النوبة»، وكتب «الغيطاني» مقدمة طويلة للمجموعة ذكر فيها «كان من المفترض أن تصدر المجموعة منذ 25 عاما على الأقل وتأخر صدورها يعكس خللًا في الحياة الأدبية».

مجموعة عروس النيل

معظم أبطال قصصك رجال، وفي أكثر من قصة كانت أسماء الرجال باللغة العربية فيما النساء بالنوبية.. هل لهذا الأمر دلالة في الثقافة النوبية؟

لا ليس هناك دلالة معينة والأمر ليس مقصودًا إذ تحترم الثقافة النوبية المرأة وتهتم بشأنها وتعتبر الأم هي أساس وجود المجتمع، لكن الأمر يرجع إلى تفجر فكرة أو رؤية أو اختيار، وأحيانًا تفرض فكرة ما أو شخصية نفسها على الكاتب وتحرك لدية الرغبة في الكتابة، وفي رواية «تبدد» على سبيل المثال تلعب البطلة دورًا أساسيًا وتأخذ مساحة كبيرة في الأحداث، أما أسماء شخصيات الرجال فتنتمي للغة العربية لتأثرها بدخول الإسلام للنوبة، والأمر ليس له دلالة في الثقافة ذاتها.

رواية تبدد

حصلت على جائزة الدولة التشجيعية، هل ترى أن الجوائز مهمة للكاتب ومؤثرة في مسيرته؟

لا شك أن الجوائز لها دورها في تحفيز قدرات الكاتب، إذ أنها تؤكد على نضج موهبته وعلى فاعلية الإبداع في نهوض المجتمع وتطوره، بالإضافة إلى ذلك فتكريم الكاتب من شأنه أن يحفز المبدعين الآخرين.

ولا شك أن الجوائز التي حصل عليها المبدعون في بدايات إبداعهم كانت حافزًا أكبر على مزيد من الإبداع، وعلى سبيل المثال الجائزة التي حصل عليها أديب العرب الكبير نجيب محفوظ، كانت دافعًا قويًا لتألق إبداعه حتى حصل على جائزة نوبل، ولم يتجه الغرب إلى تكريس العديد من الجوائز إلا لتكون حوافز قوية لمزيد من الزخم الإبداعي على مستوى العالم.

الأديب يحيى مختار

تعتبر كتاباتك محاولة لدمج الثقافة النوبية في النسيج المكون للوطن.. إلى أي مدى تشعر بالرضاء عن تأدية هذه المهمة؟

لست الكاتب الوحيد من النوبة الذي يحاول دمج الثقافة النوبية في النسيج المكون لمجمل الثقافة الوطنية، فقبل الروائيين النوبيين كان هناك الشعراء النوبيين، إذ أن الشعر أسبق من الرواية التي وفدت إلينا من الغرب، والشعراء النوبيين أكثر من الروائيين النوبيين، ومن أبرزهم محمد عبدالرحيم إدريس صاحب ديوان «ظلال النخيل» وحسين روم صاحب ديوان «النائج الشادي»، ومحمد خليل قاسم الذي كان شاعرًا قبل أن يكتب «الشمندورة».

وهناك الكثير من الروائيين الذين أبدعوا في الكتابة عن الثقافة النوبية مثل إدريس على وحسن نور وحجاج أدول وأنور جعفر وسيد إسحق، والباحث في التراث النوبي عبد الرحمن عوض والدكتور مصطفى عبد القادر، وإنني أضيف من رؤيتي لهذا الأمر الذي أراه مهمًا فهناك الكثير الذي لم يتحقق تجاه بلدنا المتفردة في تكوينها الحضاري العريق.

ماذا عن دور السينما في توصيل الرسائل التي يحملها الأدب المكتوب عن النوبة، وإذا أردت تحويل إحدى رواياتك لعمل فني فماذا تختار؟

الإبداع الفني السينمائي تحيط به الآن إشكاليات كثيرة ومتعددة وخطيرة، إذ يحاصره التلفزيون بقنواته المتنوعة فلم نعد نرى إقبالًا على شباك السينما لمشاهدة الأفلام المحلية والأجنبية مثلما كان في الماضي، وبدلًا من ذلك أصبح المشاهد يتابع الأفلام والمسلسلات التي لا تعد ولا تحصى من منزله، لذلك نادرًا ما نجد فيلم يعبر عن الحياة المصرية الواقعية وقضاياها، فأين نحن من الزمن الذي كان به للسينما والمسرح مكانتهما المهمة.

أما عن تحويل إحدى رواياتي إلى فيلم، فهذا لن يحدث، إذ أن شروط هذا الأمر تعد مستحيلة بسبب الحالة التي تمر بها السينما الآن، ولو كانت الشروط متاحة لاقترحت رواية «الشمندورة» أولًا و«جبال الكحل» ثانيًا.

رواية جبال الكحل

إلى أي مدى أصبح الأدب المرتبط بالثقافة النوبية يلقى رواجًا بين القراء؟

من الصعب الوصول لإجابة صحيحة ودقيقة عن هذا السؤال، فالأمر منوط إلى دور النشر التي تتولى عملية نشر الإبداع النوبي، فهي التي تحدد الكمية المطبوعة من العمل، كما تحدد ما إذا كان هناك ضرورة لإصدار طبعة ثانية وثالثة أم لا، ولكن فيما يتعلق بإصداراتي فهي بشكل عام حققت نتائج طيبة وبعضها صدر منها طبعات عديدة.

أي شريحة هي الأكثر اهتمامًا بالأدب النوبي؟

بطبيعة الحال التجمعات النوبية هم الأكثر اهتمامًا بالأدب المعني بالثقافة النوبية، لكن أيضًا هناك الكثير من الأصدقاء المثقفين والمبدعين الذين يولون الإبداع النوبي اهتمامهم، وكذلك بعض الندوات التي تتناول عموم الإبداع المصري تتناول أيضًا الإبداع الصادر عن الكُتاب النوبيين، كما أن هناك الكثير من النُقاد المحترمين الذين يبذلون جهودًا كبيرة وطيبة في تناول مختلف الإبداعات المصرية والعربية في عمومها وباهتمام كبير يُشكرون عليه، وهم في حقيقة الأمر من أكثر النقاد فاعلية في الثقافة المصرية.

حدثنا عن رؤيتك للمشهد الثقافي النوبي الراهن؟

المشهد الثقافي النوبي في مجموعه يرتبط جذريًا بالوجود النوبي، ولما كان الاقتلاع الكامل الذي حدث للنوبة المصرية دون النوبة السودانية إلا في قليل من قواها التي طالتها مياه السد العالي حول وادي حلفا، ذلك الاقتلاع الذي كان له أثره السلبي العميق والشامل في الثقافة النوبية، وإذا كنت وباقي المبدعين النوبيين نستدعي تجاربنا وما عاصرناه في القرى قبل اندثارها فالأجيال الجديدة من أبناء النوبيين الذين ولدوا في مدن الشمال ليس لهم صلة بذلك العالم الذي تبدد، لذا لا يوجد ما يمكن أن نسميه بالمشهد الثقافي النوبي.

ماذا عن المشهد الإبداعي المصري بكل تفاصيله؟

هذا السؤال لا يُجيب عليه المبدع، المنوطين بهذا الأمر هم النقاد، فهم قادرون على تقييم الوضع الإبداعي ليس فقط على مستوى الوطني ولكن على المستوى العربي، أما عن انطباعي الشخصي فالمشهد ليس جيدًا ولم يصل بعد لمستوى إبداع جيل الستينيات، فلقد كان غلق المجلات الثقافية وتوقف الندوات الأدبية مؤشرًا دالًا على أن هناك ضيق وعدم ارتياح للثقافة والمثقفين.

تتبنى توثيق الثقافة النوبية، كيف تعزز شعورك بهويتك رغم تركك للنوبة وإقامتك بالقاهرة وأنت في الثامنة من عمرك؟

إنني أقيم في وطني الذي يشمل النوبة ويشمل كل محافظات الوطن، وحيثما ذهبت لن يسلبني ذلك انتمائي سواء لنوبيتي أو لمصريتي، فهل لو هاجرت إلى فرنسا أو بريطانيا أو أي دولة من دول العالم سأفقد انتمائي؟ إن تجوالي في أنحاء المعمورة لن يسلبني الخصوصية التي تشكل وجداني.

كيف ترى التضحيات التي قدمها النوبيون أثناء بناء السد العالي؟

الإبداع النوبي في عمومه به إشارات إلى تلك التضحيات، لكن ينبغي على الشعب أن يعلم بتلك التضحيات فغالبية أبناء الوطن في الشمال لم يذهبوا إلى الجنوب في الوقت الذي كان الرحالة الأجانب والمستكشفين يعرفون الكثير عن النوبة وعن تاريخها وآثارها، وهذا قصور في مناهج التعليم وأجهزة الإعلام.

ومن تضحيات النوبيين قبولهم بصحراء كوم أمبو كبديل عن قراهم التي توجد على ضفتي النيل، مما أفقدهم جوهر وجودهم وحضارتهم بخصوصيتها التي ارتبطت بالنيل، كما أنهم رأوا أن اهتمام الدولة بإنقاذ الآثار في منطقة النوبة كي لا تضيع في بحيرة السد العالي لم يكن موجودًا تجاه الوجود النوبي نفسه بتاريخه ولغته وحضارته.

مثلت النوبة رافدًا مهمًا للثقافة المصرية.. كيف ترى رموز النوبة على المستويين الثقافي والنضالي؟

تحدثت خلال الإجابات السابقة عن جزء من ما أسهم به المثقفون النوبيون في تيار الثقافة الوطنية، وعن الدور النضالي فكثير من هؤلاء المثقفون انخرطوا في العمل السياسي الوطني كمواطنين شأنهم في ذلك شأن باقي المثقفين في أرجاء الوطن، منهم من انضم للتيار اليساري بجميع تنظيماته على اختلافها قبل ثورة 1952 وبعدها، بل ومعظمهم استمروا في هذه التنظيمات بعد إلغاء الأحزاب عام 1954 ودخلوا السجون والمعتقلات ومنهم من ظل في المعتقل حتى بناء السد العالي عام 1964.

ويحضرني الآن رمز بارز من النوبيين وهو أحمد إدريس، الذي كان جندي متطوع في حرس الحدود، ولاحظ قادته قدرته على التغلب على قدرة العدو الصهيوني في فك شفرات الإتصال، إذ كان يستخدم اللغة النوبية بلهجتيها لتكوين الشفرات السرية في الاتصالات بين قوات الجيش الوطني الباسل في حرب التحرير عام 1973.

ساهمت في الحفاظ على تراث النوبة بعضويتك في جمعية التراث النوبي.. كيف ترى خطوات حماية هذه الثقافة من الاندثار؟

أدرك النوبيون في مهجرهم أن صدمة الإزاحة الكاملة يصعب معالجتها، إذ عايشوا لأول مرة تآكل ثقافتهم الخاصة لغة وعادات وتقاليد، ولاحظوا عدم التوازن في معدلات الذكور والإناث خاصةً في المدى العمري المتوسط، مما أوجد مشكلات لغوية اقتصادية واجتماعية ونفسية عديدة يعانون منها، كل هذا دفع المثقفين النوبيين إلى إنشاء جمعية التراث النوبي لتكون بوتقة تحفظ اللغة والتراث وكل ما يمت للحياة النوبية بصلة، واستطاعت الجمعية إنشاء دورات لتعليم الجيل الجديد من النوبيين والنوبيات اللغة النوبية بلهجتيها.

طالبت الجمعية المسؤولين بضرورة إدراج اللغة النوبية كمادة دراسية في مناهج التعليم في الجامعات على غرار اللغة السواحيلية على سبيل المثال حفاظًا عليها من الضياع، ولكن السلطات رفضت دون إبداء أسباب، كما أنشأت الجمعية صلة مع اليونسكو للتعاون على العمل في حفظ التراث النوبي. ولقد كان للباحث النوبي ماهر حبوب دور في تعزيز الثقافة النوبية من خلال صنع قاموس شامل للأمثال النوبية المترجمة باللغة العربية.

وعلى الرغم من امتلاك النوبيين لشبكات اجتماعية متنوعة غير نوبية إلا أنهم في الوقت نفسه أقاموا مجتمعًا خاصًا بهم يميزهم عن المجتمعات النوعية الأخرى في مدن الشمال، ذلك المجتمع الذي حققته لغتهم الخاصة إلى جانب العربية وكذلك العادات الخاصة التي حملوها معهم من قراهم.

الأديب يحيى مختار

درست في جامعة القاهرة في خمسينيات القرن الماضي وكنت من أوائل خريجي قسم الصحافة في كلية الآداب.. كيف ترى الاختلافات الراهنة في الجامعة المصرية عن الماضي؟

ما يحسم الإجابة على هذا السؤال هو تقييم المستوى العلمي والقدرات الذاتية لأساتذة تلك المرحلة من الخمسينيات وما قبلها من رموز ما زالت إشعاعاتها تنير دروب الباحثين عن العلم والمعرفة وما كان مرتبطًا في تلك المرحلة من أهداف التعليم الذي أصبح بعد مجانية التعليم منعكسًا وعاكسًا معًا لحالة الوطن بما فيه من تطلعات مختلفة وتحديات فرضها تخلص البلاد من الحكم الملكي ونفوذ الاستعمار. إضافةً إلى ما يرتكز عليه وطننا من انتماءات خاصة وما تتطلبه هذه الانتماءات من رؤى وخطط تختلف اختلافًا جذريًا عما عهدناه، بالإضافة إلى ما يحتمه العصر الذي نعيشه الآن من ثورات علمية شاملة جعلت الحياة تختلف تمامًا عن العالم في كل القرون الماضية.

كيف أثرت تجربة اعتقالك في الخمسينيات والستينيات على مسيرتك الإبداعية؟

أولًا أؤكد أن توجهي للانخراط في تنظيم يساري في مرحلة دراستي الجامعية كان دافعه البحث عن العدالة التي افتقدها النوبيين نظرًا لأنهم من جموع الشعب، ثانيًا لم تتأثر عقيدتي الدينية التي نشأت عليها في قريتي «الجنينة والشباك» مقر مقامات الشيوخ الميرغنية بانتمائي لليسار فهذا الانتماء لا يحتم على أن أصدق أن الدين أفيون الشعوب ومعيق للنضال.

وبعد خوضي لتجربة الاعتقال التي تحدثت عنها وعن تأثيرها في مسيرتي الإبداعية خلال روايتي «جبال الكحل»، اتخذت الصدق مع النفس والرغبة الحقيقية في المعرفة والفهم محفزًا في للتفكير، سقطت لدي مثاليات كثيرة ولم أعد أؤمن ببشر أنصاف آلهة، حرصت على ألا يتحول الأمر إلى عبادة الذات والصلاة في هيكل النفس تحت دعوى باطلة، كما حاولت أن أكف عن المحاولة الاقتراب من الأشياء والناس، فربما يتاح للمرء حتى لو قارب أجله النهاية أن يعرف ويفهم ويسامح.. هكذا كان التفكير في الكتابة والإبداع لكل ما اختمر في الوجدان من تجارب عشتها طفولةً وصباً ورشدًا.

انهارت الاشتراكية في معظم بلدان العالم، هل ترى ثمة أمل في انتصار الأفكار التي ناضلت من أجلها؟

إن كل مفاهيم الاشتراكية بتنوعها، منها ما هو مثالي يتعذر تطبيقه وإن حسنت النوايا في محاولات ذلك. لقد ناضل مناضلون كثيرون مع صدق نواياهم ولكن حالت النظم الاستبدادية دون تحقق مساعيهم، فضلا عن ترسخ الرأسمالية في معظم الدول التي لجأت إلى أساليب حالت دون قدرة المناضلين على تحقيق الاشتراكية والوصول للسلطة.

وأذكر أنني لم أتبني أفكارا أو أنظمة محددة للاشتراكية بقدر انحيازي للفكر الباحث عن العدالة بين البشر وعن الأمل في انتصار الأفكار وأساليب رفع المظالم عن الشعوب المقهورة، يذكرني هذا الحلم بالاشتراكية الإسلامية التي طبقها الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي الذي حقق مقولته: «إن الخليفة أجير عند الأمة»، مؤمنًا بنشر العدالة ورد المظالم ونشر العلم بين الرعية، لدرجة أنه أثناء ولايته لم يكن هناك مظلوم أو مقهور، حتى أن أموال الذكاة في بيت المال لم تجد فقيرًا محتاجا لها.

وسيظل الأمل والحلم يراود البشرية للوصول لحياة أفضل، ولكن لن تكون هناك جنة في الدنيا.

هل أدى المثقفين دورهم في الحرب ضد الإرهاب ومكافحة التطرف؟ وكيف تقيم تعامل الدولة مع المبدعين؟

المثقفون لا يملكون غير الكلمة ولقد قاموا بواجبهم نحو قضية الإرهاب من خلال كشف ألاعيب وأفكار الإرهابيين والرجعيين بقدر ما سمحت لهم الإمكانيات المتاحة وما تقدمه لهم وسائل الإعلام من إمكانيات للمشاركة في الحرب ضد الإرهاب، ولكن يبقى هناك قصور فيما يخص قدرة الكلمة في مواجهة الإرهاب وهو انتشار الأمية في القرن الواحد والعشرين مما يسبب عدم الفهم المستنير للدين، الأمر الذي يتخذه الإرهاب مظلة للفكر الرجعي.

وعن تعامل الدولة مع المبدعين، فلا قصور ولا تقصير في هذا الأمر، فحرية التعبير مكفولة ودور النشر والإبداع التابعة لوزارة الثقافة تقوم بدورها على الوجه الأكمل، فقط تبقى هناك آفة بين بعض المثقفين وهي تبادل المنافع فيما يخص التقييم للإبداع المتميز، وفعل الشللية مرض ندعو الله أن نبرأ منه.

لماذا لم تنتج الثقافة المصرية جيلًا مهيمنًا مثل جيل الستينيات حتى الآن؟ وهل توافق على فكرة المجالية الأدبية؟

نعم أوافق على فكرة المجالية الأدبية كمدخل للإجابة عن السؤال الرئيسي، إذ تعتبر المجالية الأدبية نتاجًا للحالة الثقافية العامة التي تكون نتاجًا لعوامل كثيرة مشتركة تتفاعل لتنتج حالة الإبداع لدى المؤهلين فكريًا له.

وإذا انتقلنا للحديث عن جيل الستينيات فإن كل الظروف والمناخ الثقافي العام آنذاك كان مواتيًا ليستطيع الموهوب أن يبدع دون أن تبدد موهبته، فقد كان أبناء الوطن يعاصرون الفن والإبداع في أروع صوره من خلال دار الأوبرا ومتاحف الفن التشكيلي وقصور الثقافة التي أُنشئت في جميع المحافظات والمسرح القومي والسينما والهيئة العامة للكتاب وغيرها، وهذا ما لم يعايشه المثقفون بعد فترة الستينيات، فعقب هذا العطاء الرائع يأتي زمن الثمانينيات الذي شهد إغلاق المجلات الثقافية ووقف الندوات الأدبية، والذي شهد الضيق الثقافي مما أدى لتقدم دول أخرى عنا في الثقافة.

After Content Post
You might also like