الكونت دو فريسناي .. من الأدب إلى صناعة الأفلام

جي دو فريسناي الملقب بالكونت دو فريسناي، شخصية متعددة الأبعاد، فرنسي المولد ومراكشي بالتبني، تقلب بين كتابة الرواية وقرض الشعر ليستقر به المطاف، في آخر الأمر، في عالم الفن السابع، حيث كتب السيناريو وأخرج عدة أفلام في مجال السينما الصامتة، التي يعتبر أحد روادها المتميزين على الصعيد العالمي. أغرم بمراكش، فاستقر بها إلى أن أسلم الروح إلى بارئها في أواخر أيام فصل الصيف من ثلاثينيات القرن الماضي.

دو فريسناي حياة الإبداع والألم

ولد دو فريسناي يوم 23 نونبر 1877 بباريس، مدينة الأنوار. وعلاوة على كونه نبيل المحتد، فهو سليل الروائية ماري دو فريسناي، وجد الكاتب ورجل الاقتصاد فيليب دو فريسناي. ويعتبر من أدباء فرنسا المرهفين، ألف رواية “شغف فريد” وديوان “بصمات” الصادرين عن منشورات “موريس بوش” سنة 1912. بالنسبة للعمل الروائي، فإنه يحكي عن معاناة بطله المسمى فريد، الذي سيموت بعد أن يبوح باعترافاته. أما المتن الشعري، فيكشف لنا عن آثار حزن عميق لإنسان خبر تجارب الحياة بحلوها ومرها، حيث عاش في كنف الجاه والثروة، لكن الحياة لم تلبث أن قلبت له ظهر المجن، إذ ترمل في أواخر حياته بفقدانه زوجته لينا، وكلم بوفاة ابنه جيهان في عمر الزهور سنة 1922، وابنه الأكبر فرنسوا سنة 1933، الذي لم يمض على زواجه سوى بضع سنين، والذي كان يأمل أن يحمل صفة النبلاء ويخلد اسمه من بعده.

وخلال الحرب العالمية الأولى، عمل دو فريسناي قائدا لسلاح المدفعية، ونظرا لبسالته وحنكته، تمكن من الحصول على عدة أوسمة حربية، كان أرقاها وسام فارس جوقة الشرف، الذي كان يحلو له أن يتزين به في المناسبات الرسمية والهامة، من قبيل تصوير مشاهد فيلم “فروفرو”.

إن الأوضاع المضطربة التي عاشها دو فريسناي جعلته يتخلى عن ثروته لفائدة بناته، ويفضل العيش، سنة 1933، لدى إحداهن المسماة بيرونجير والملقبة بالبارونة دو لافونتين بفيلا “عدي وعدي” الكائنة بواحة النخيل بمراكش إلى أن أسلم الروح إلى بارئها يوم 20 شتنبر 1937 بمستشفى ميزوناف، المهيأ من طرف الحماية الفرنسية، بمقرات قصر الدار البيضاء بأكدال، ويوارى الثرى بالمقبرة الأوربية بالمدينة ذاتها.

دو فريسناي أحد رواد السينما العالمية الصامتة

خلال سنة 1912 بدأ هذا المبدع مساره السينمائي المشوق، عبر العمل مخرجا سينمائيا وكاتب سيناريو لدى استوديوهات ليون كومون والشركة الفرنسية للأفلام الفنية جوبيتر. وبينما كان منهمكا في إخراج الكوميديا الموسومة بـ “شيطان البيت” لجورج صاند، وجد نفسه مضطرا للتوقف عن إتمام هذا العمل المميز، من أجل الذهاب إلى جبهة القتال سنة 1914، إبان الحرب العالمية الأولى. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، استأنف عمله السينمائي بإخراج فيلمي “حديقة القرصان” و”الكاتدرائية العجيبة” سنة 1918.

وفي بحر سنة 1920، نقل بعض الأعمال الروائية إلى الشاشة الفضية، وهي: “من الكأس إلى الشفتين” للروائي بول دو كاروس، و”صديق الجبال” لزميله جون رامو. وتعتبر هذه الفترة نقلة نوعية في المسار السينمائي لهذا المبدع، حيث نجح، بشكل كبير، في تحويل نصوص روائية متميزة إلى أفلام سينمائية مكتملة، مساهما بذلك في إشعاعها على الصعيد العالمي.

وبحلول سنة 1921، قام دو فريسناي بكتابة سيناريو وإخراج فيلم “الأجنحة المنبسطة”، المستوحى من حياة بناته، والذي خلف نجاحا منقطع النظير في الأوساط السينمائية، الأمر الذي شجعه على مواصلة المسير في هذا المجال. وفي السنة الموالية قام بتوقيع فيلم “مارغو” المقتبس عن قصة الكاتب ألفريد دو موسيه، التي تحمل العنوان ذاته، وهو يعتبر، بشهادة المختصين في مجال الفن السابع، عملا سينمائيا متميزا، من حيث الإخراج وفضاءات التمثيل وأداء الممثلين.

وخلال سنة 1923 مهر ببصمته الخاصة فيلم “فروفرو” المقتبس عن العمل المسرحي بالاسم ذاته، والمؤلف من طرف هنري ميلاك ولودوفيك هاليفي. وفي السنة الموالية قام بكتابة سيناريو كل من رواية “صديق الأدغال” للروائي جون ديسم، وفيلم “أرلكان” المقتبس عن مسرحية موريس ماكر، لكنه عدل عن نقل هذين العملين الإبداعيين إلى السينما، بغية تصريف بعض القضايا الإرثية والعقارية العائلية.

لقد كانت الأفلام السينمائية التي أنجزها دو فريسناي، رغم افتقارها للصوت، بليغة بلغتها الصامتة وصمتها التواصلي، وناطقة بإبداعها الفني المتميز والعابر للحدود، لكونها تعتمد على مواقف ومشاهد مكثفة تعبر عن ذاتها ويسهل على المشاهدين، رغم اختلاف لغاتهم، فهمها دونما حاجة لاستعمال الحوار. وهذا ما ذهب إليه الشاعر الشيلي بابلو نيرودا حينما قال: “الصمت هو اللغة الرئيسية للإنسان”، و”الكلام هو أحد أجنحة الصمت”.

ومن هنا، يمكن القول إن المسار السينمائي لهذا المبدع يتميز بالانتظام والتنوع، حيث ترك أفلاما أصيلة من إبداعه، وأخرى مستوحاة من أعمال روائية ومسرحية لكتاب عالميين، وجراء هذا التراكم السينمائي الحافل الذي أنجزه دو فريسناي، كانت صحافة تلك الفترة تصنفه في خانة السينمائيين الكبار، مثل: هنري فيسكور وجاك فيدير، إضافة إلى مارسيل ليربيي.

إقامة “عدي وعدي” بلسم الروح للكونت دو فريسناي

بقدر ما كانت أحزان دو فريسناي عميقة ومقيمة، نتيجة فقدانه أفرادا أعزاء من أسرته، بقدر ما كانت فيلا “عدي وعدي” بلسم الروح والمكان المناسب له، للاستجمام وعيش حياة جديدة في عوالم أخرى تساعد على النسيان والمواساة.

شيد هذه البناية الفاخرة، التي تعتبر أول إقامة أجنبية بواحة النخيل بمراكش، صهره البارون دو لافونتين ما بين سنتي 1930 و1931، بتصاميم هندسية فريدة للمهندس الفرنسي بول سينوار، الذي بصم بتوقيعه عدة معالم معمارية بمراكش، مثل: بلدية مراكش والفيلا التكعيبية بحدائق ماجوريل، علاوة على فيلا تايلور بحي جليز بالمدينة ذاتها. وقد حظيت هذه التحفة الهندسية، التي توجد في مكان تبلغ مساحته ستة هكتارات، ومحاط بمختلف الأشجار والورود، بزيارة عدة شخصيات عالمية بارزة من عالمي السياسة والفن، نذكر من بينها: الملكة الرومانية ماري والوزير الأول البريطاني ونستون تشرشل، والرسام الفرنسي جاك ماجوريل، إضافة إلى زميله مصمم الأزياء بيير بالمان.

وفي الوقت الراهن، فإن لهذه الإقامة وظيفة سياحية وترفيهية، حيث أصبحت مكانا مفتوحا للعموم من أجل تنظيم مختلف الأنشطة والحفلات، في جو مفعم بعبق التاريخ وفضاء مستوحى من روائع الهندسة المعمارية المغربية الأندلسية، مع لمسة أوروبية حداثية.

لقد كان دو فريسناي يحب فن العيش المغربي وسحر مدينة مراكش، وكان يجد متعة كبيرة في الإنصات لنبض الحياة بهذا المكان، لكن، بعد وفاته، القليل من المراكشيين يعرف أو يتذكر، اليوم، بأن هذا الأديب والسينمائي الكبير قطن بأحد الفضاءات المنزوية والجميلة من مدينتهم، ذات فترة زمنية من القرن الماضي.

After Content Post
You might also like