أسواق تتقلّب وذهب يلمع وثروات تزيد – ملاحق – حصاد العام

كثرت التحليلات والدراسات التي تتناول التداعيات الاقتصادية الناجمة عن تفشي جائحة «كوفيد 19» على مدى الأشهر التسعة الماضية، وهي الفترة التي شهدت ذروة الأزمة الاقتصادية التي خلّفتها الجائحة منذ بدء تفشيها عالمياً في فبراير الماضي وحتى الآن. واعتبرت التحليلات أن 2020 كان الأسوأ في ترايخ الاقتصاد العالمي، كما تسيطر حالة من عدم اليقين لسيناريوهات المستقبل.

وثمة ثلاث حقائق رئيسية يمكن استخلاصها من كل هذه التحليلات، تُعد بمثابة المحصلة النهائية للنتائج الاقتصادية للجائحة، وهي: حالة التقلب الشديدة التي ضربت أسواق الأسهم العالمية بين انهيار وتعافٍ، والارتفاع التاريخي غير المسبوق في أسعار الذهب، وأخيراً الزيادة الهائلة في أسعار أسهم شركات التقنية العالمية، وهو ما ترتبت عليه زيادات هائلة أخرى في القيم السوقية لهذه الشركات وفي الثروات الشخصية لمؤسسيها ورؤسائها التنفيذيين، الذين هم في الأصل مليارديرات.

تقلبات الأسواق

نبدأ بتقلبات الأسواق العالمية، فقد عانت بورصات الأسهم في كل أنحاء العالم اضطرابات غير مسبوقة طوال العام الجاري، بين هبوط حاد وصعود خارق.

ومرت أسواق الأسهم في رحلتها هذا العام مع تداعيات الجائحة بمنعطفات عنيفة، سواءً في هبوطها أو صعودها، فمن انخفاض مفاجئ في فبراير، إلى انهيار درامي في مارس، إلى تَرنّح بتأثير الصدمة خلال غالبية أبريل، أعقبته استفاقة تدريجية بدأت من أواخر أبريل واستمرت بوتيرة متصاعدة على مدى مايو ويونيو، مروراً بانخفاض نسبي في يوليو، ثم عودة إلى الانتعاش في أغسطس بلغت ذروتها في نهاية الشهر بتحقيق ارتفاعات قياسية فاقت في قيمتها انخفاضات فبراير ومارس المؤلمة، وعوّضت الخسائر الناجمة عنها، ثم تراجع جديد في سبتمبر ارتفعت حدته قليلاً في أكتوبر، ثم عودة أخيراً إلى التعافي في نوفمبر الماضي.

فعلى عكس ما هو متوقع تماماً، جاء شهر نوفمبر بانتعاش مفاجئ للأسواق العالمية بعد الإعلان رسمياً عن فوز جو بايدن، المرشح عن الحزب الديمقراطي، بنتائج الانتخابات الأمريكية، وإعلان عدد من الشركات في العالم فعالية اللقاحات التي تطورها لمواجهة فيروس كورونا.

وكانت العديد من الشركات أعلنت أن العقار تثبت كفاءة بنسبة تفوق 90 % في الوقاية من «كوفيد 19» لدى الأشخاص الذين لم يصابوا بعدواها من قبل. ويتوقع غالبية المحللين الاقتصاديين أن يستمر الانتعاش الحالي خلال الشهر الجاري، بل وأن يكون بمثابة إرهاصة لانتعاش أكبر خلال العام المقبل، إذا ما تأكدت صحة المعلومات بشأن كفاءة اللقاح المُنتظر.

ارتفاعات كبيرة

وليس أدل على حدة وغرابة المنعطفات التي واجهتها البورصات العالمية هذا العام في التراجع والانتعاش على السواء من أن الأرقام التي سجلتها غالبية مؤشرات البورصة الرئيسية في العالم حتى لحظة كتابة هذا التقرير تشير إلى ارتفاعات بنسب كبيرة بالمقارنة مع أرقامها في التاريخ نفسه من العام الماضي، وذلك على الرغم من التراجع الكارثي الذي سجلته كل مؤشرات العالم من دون استثناء خلال الفترة من أواخر فبراير وحتى أواخر أبريل 2020، وهي الفترة التي شهدت اندلاع الجائحة وما ترتب عنها من صدمات قاسية للأسواق العالمية.

ويعني ذلك باختصار أن المحصلة العامة لأداء البورصات العالمية في 2020 هي ارتفاع هائل بالمقارنة مع 2019 برغم كل ما عانته من انخفاضات مؤلمة في الربع الأول 2020 بسبب الجائحة، ما يشير إلى نجاحها في تعويض هذه الانخفاضات، بل وتحقيق ارتفاعات تفوقها في الأرقام والنسب، خلال الفترة المتبقية من 2020.

داو جونز

ولنوضح ذلك باستعراض أداء المؤشرات الأمريكية على سبيل المثال في 2020. فإذا تحدثتا عن مؤشر «داو جونز» لأسهم الشركات الصناعية الأمريكية، سنجد أن رحلته مع التقلبات الحادة هذا العام بسبب «كوفيد 19» بدأت يوم 27 فبراير على وجه التحديد، حيث تراجع المؤشر بقيمة 1190.95 نقطة، أي بنسبة 4.42 %، وهو أكبر تراجع يومي له استناداً إلى النقاط منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.

ومع بدء تفشي «كوفيد 19» عالمياً على نطاق واسع، خاض «داو جونز» رحلة لتحطيم الأرقام القياسية السلبية خلال مارس 2020. ففي التاسع من مارس، سجل المؤشر رقماً قياسياً في نسبة انخفاضه، عندما انخفض بنسبة 7.8 % «سجل المؤشر هذا الانخفاض في غضون 4 دقائق فقط من بدء التداولات». ولم تمر سوى ثلاثة أيام فقط قبل أن يحطم «داو جونز» هذا الرقم عندما فقد 10 % أخرى من قيمته في يوم 12 مارس.

ومضى «داو جونز» في رحلة تقلبات ليجد منعطفات صاعدة أيضاً. فعلى سبيل المثال، كان أحد هذه المنعطفات الصاعدة هو المنعطف الذي بدأ في 23 مارس وحتى 9 يونيو 2020، حيث ارتفع خلال هذه الفترة بنسبة 48 % وكان أعجب هذه المنعطفات في أغسطس الماضي.

ويُعزى العجب إلى أن أغسطس عُرف تقليدياً بتواضع أداء الأسهم العالمية بصفة عامة خلاله بسبب ضعف حركة الشراء، لكن الصعود الهائل في أسعار أسهم الشركات التقنية وانتعاش الآمال بشأن تطوير لقاح مضاد للجائحة في أغسطس الماضي جعلا منه أفضل أغسطس في أداء مؤشرات البورصات العالمية المختلفة منذ عقود. ولم يكن «داو جونز» استثناءً من ذلك، حيث ارتفع على مدار أغسطس الماضي بنسبة 7.57 %، مسجلاً أفضل أداء له في أغسطس منذ 1984.

وكانت محصلة كل هذه الرحلة الطويلة أن «داو جونز»، الذي يعكس متوسط سعر 30 سهماً لأكبر 30 شركة أمريكية مُدرجة في بورصتي «نيويورك» و«ناسداك» ويُعد بمثابة المؤشر الرئيسي لرصد حالة الاقتصاد الأمريكي، يقف في هذه اللحظة عند مستوى 29420.92 نقطة، محققاً ارتفاعاً سنوياً نسبته 3.09 %.

«إس أند بي» وناسداك

وجاءت التقلبات أكثر حدة وغرابة لدى كلٍ من مؤشر «إس أند بي 500» لأكبر 500 شركة أمريكية مُدرجة في كل البورصات من حيث قيمتها السوقية ومؤشر «ناسداك المُركب» لأسهم الشركات التقنية.

فبعد أن فقد المؤشران معاً ما يزيد على 20 % يوم 12 مارس الكارثي، سارا في رحلة التقلبات واستفادا من المنعطفات الصاعدة ومفاجآت أغسطس 2020، وبات «إس أند بي 500» يقف في هذه اللحظة عند مستوى 3545.33 نقطة، بارتفاع سنوي نسبته 9.74 %، فيما تبلغ قيمة «ناسداك المُركب» الآن 11553.86 نقطة، بارتفاع سنوي 28.77 %.

تألق الذهب

وننتقل الآن إلى ثاني أبرز الحقائق الاقتصادية التي أفرزتها «كوفيد 19» هذا العام، وهي الارتفاع القياسي في أسعار الذهب العالمية.

فقد أكد الذهب هذا العام مكانته المعروفة كملاذ آمن تاريخي للأثرياء يحفظ لهم قيمة ثرواتهم في أوقات الأزمات الاقتصادية العنيفة، وهذا ما حدث تحديداً في 2020 وأزمة الجائحة، عندما اندفع المستثمرون على نحو هيستيري لشراء الذهب أثناء الفترات التي تصاعدت فيها مخاوفهم من التداعيات الاقتصادية، فكانت المحصلة أن سعر الذهب ارتفع على مدار العام بنسبة بلغت ذروتها في مطلع أغسطس الماضي، وهي 34 %، عندما تجاوز سعر الأونصة حاجز 2000 دولار وبلغ رقماً قياسياً تاريخياً، 2047 دولاراً تحديداً، وكان ذلك يوم 5 أغسطس.

وكان أعلى رقم قياسي لسعر الذهب تاريخياً قبل 2020 وأزمة الجائحة هو 1920.30 دولاراً للأونصة في عام 2011. وبحسب إحصائيات صادرة عن المجلس العالمي للذهب، تداول المستثمرون على مستوى العالم كميات غير مسبوقة تاريخياً من الذهب خلال النصف الأول 2020، حيث بلغت 734 طناً، وهو رقم قياسي، بقيمة إجمالية بلغت 39.5 مليار دولار.

وبحسب دراسة أصدرتها شركة «مكنزي» الأمريكية للاستشارات الإدارية، كان لانخفاض كُلفة استخراج الذهب في مناطق عدة من العالم خلال 2020 بسبب تداعيات «كوفيد 19» دور إضافي في الارتفاع القياسي الذي شهده سعر المعدن الأصفر. وأفادت الدراسة أن متوسط كُلفة استخراج الأونصة الواحدة انخفضت هذا العام بنسبة 8 %، لتصل إلى 544 دولاراً، بالمقارنة مع 591 دولاراً في 2019.

وساهم انخفاض أسعار الطاقة العالمية وأيضاً انخفاض سعر الدولار أمام عملات بعض الدول في خفض كُلفة عمليات التنقيب عن الذهب كثيراً خلال العام الجاري، ما عزّز جاذبية المعدن الأصفر في أعين المستثمرين كملاذ استثماري آمن وقت الأزمات. ويُمكن القول إجمالاً بأن «كوفيد 19» كان اختباراً حقيقياً لمكانة الذهب كبديل استثماري، وكانت نتيجة الاختبار هي النجاح المدوي.

شركات التقنية

وكان ثالث وآخر المتغيرات الاقتصادية التي جلبتها جائحة «كوفيد 19» هو الزيادة الهائلة التي أحدثتها الجائحة في قيمة الثروات التي يمتلكها مليارديرات العالم بصفة عامة، والذين يعملون في قطاعات معينة، وفي مقدمتها التقنية والرعاية الصحية، بصفة خاصة.

وبحسب تقرير حديث صادر عن بنك «يو بي إس» السويسري، شهدت الفترة من أبريل وحتى يوليو 2020 وحدها ارتفاع القيمة الإجمالية للثروات التي يمتلكها مليارديرات العالم إلى 10.2 تريليونات دولار، مسجلة بذلك رقماً قياسياً تاريخياً، وبنسبة ارتفاع بلغت 27.5 %.

وكان آخر رقم قياسي لثروات المليارديرات هو 8.9 تريليونات دولار نهاية 2017. كما ارتفع عدد مليارديرات العالم أنفسهم إلى رقم قياسي أيضاً خلال الفترة ذاتها، وهو 2189 مليارديراً، بالمقارنة مع آخر رقم قياسي هو 2158 مليارديراً نهاية 2017 أيضاً.

وأدت قواعد التباعد الاجتماعي وفكرة العمل عن بُعد التي فرضتها «كوفيد 19» في مختلف أنحاء العالم إلى ارتفاع خرافي في إقبال المستهلكين على الخدمات والمنتجات التي تقدمها الشركات التقنية وشركات الرعاية الصحية.

وبالتبعية، ارتفعت أسهم هذه الشركات وقيمها السوقية، وارتفعت معها الثروات الشخصية لمؤسسيها ورؤسائها التنفيذيين. وبحسب البيانات الواردة ضمن «مؤشر بلومبيرغ للمليارديرات»، كان رائد الأعمال الأمريكي الكندي، إيلون ماسك، مؤسس شركة «تسلا» لتصنيع السيارات الكهربائية ورئيسها التنفيذي، هو صاحب أعلى إضافة إلى ثروته الشخصية في 2020، حيث أضاف 73 مليار دولار.

وجاء الأمريكي جيف بيزوس، مؤسس «أمازون» للتسوق الإلكتروني ورئيسها التنفيذي، وأغنى رجل في العالم منذ سنوات عدة متتالية، في المركز الثاني، حيث أضاف إلى ثروته الشخصية 68.4 مليار دولار هذا العام.

وكانت ثالث أعلى إضافة من نصيب زونغ شانشان، أغنى رجل في الصين، مؤسس شركتي «نونغفو سبرينغ» لتعبئة مياه الشرب و«وانتاي» لتصنيع المنتجات الدوائية والأمصال. وأضاف شانشان إلى ثروته الشخصية هذا العام 49 مليار دولار.

تراجع النمو

توقع صندوق النقد الدولي أن ينخفض النمو العالمي 4.4 % في عام 2020، وهو انكماش أقل حدة مما تنبأ به عدد يونيو 2020 من تقرير «مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي». ويعكس هذا التعديل نتائج إجمالي الناتج المحلي التي كانت أفضل من المتوقع في الربع الثاني من العام، ولا سيما في الاقتصادات المتقدمة، حيث بدأ النشاط يتحسن بسرعة أكبر مما كان متوقعا بعد تخفيف الإغلاق العام في شهري مايو ويونيو، وكذلك مؤشرات تحقيق تعافٍ أقوى في الربع الثالث من العام.

 

 

طباعة
Email




After Content Post
You might also like